وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (٦٦)}.
في هذه الآيات: ذِكْرُ جرأة اليهود على ربهم وتطاولهم في الكلام بصفاته دون تأدب أو خجل، وتجاهل نعمه عليهم وكثرة صفحه، وعفوه عنهم، فوصفوه بالبخل كما وصفوه بالفقر عليهم لعائن الله، بل هو الواسع الفضل الجزيل العطاء وعنده خزائن كل شيء. ثم فيها إِخبارٌ من الله لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- أن ما أكرمك الله به من الوحي والحق سيكون نقمة على اليهود وأمثالهم وسيزدادون به حسدًا حقدًا وطغيانًا، كما يزداد به المؤمنون إيمانًا وإحسانًا. ثم لا تجتمع قلوبهم بل سيفتك الحقد والبغي بين فرقهم مقابل كفرهم، وكلما أبرموا حالة اجتماع ليحاربوك فيها يمزقها الله ويبطلها، ومن صفاتهم استمرار إشعال الأرض بنار الفساد والله لا يحب المفسدين. ولو أنهم آمنوا بالله ورسوله وكفوا عن الظلم والآثام وأقاموا التوراة والإنجيل ثم أقاموا القرآن النازل إليهم لبسط الله لهم ألوان البشائر والنعيم في الدنيا والآخرة، ولكن قليل مَنْ آمن واتقى منهم، وأكثرهم فاسقون.
وتفصيل ذلك:
قوله: ﴿وَقَالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾.
قال ابن عباس: (ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقةٌ، ولكنهم يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا،
فكذبهم الله بما قالوا ووبّخَهم فقال جل ثناؤه: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾.
قال قتادة: (قالوا: الله بخيل غير جواد! قال الله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}).
وقال الضحاك: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾، يقولون: إنه بخيل ليس بجواد! قال الله: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾، أمسكت أيديهم عن النفقة والخير. ثم قال يعني نفسه: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾. وقال: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ... (٢٩)﴾ [الإسراء]، يقول: لا تمسك يدك عن النفقة).
قال القرطبي: (﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالوا﴾. قيل: المراد أنهم أبخل الخلق، فلا