جعل لها رواسي وأنهارًا، وسخر لهم الرياح والسحاب فأجرى الأنهار، وأنبت الزرع والثمار، وجعل لهم منازل وبيوتًا، وذلّل لهم المكاسب والمعايش والمنافع وقليل منهم الشاكرون. ثم نبّه سبحانه على شرف أبيهم آدم، وأمر الملائكة بالسجود له تكريمًا، خلقه سبحانه بيده من طين، ثم صوركم في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق، فأبى الشيطان السجود لأبيكم حسدًا وكبرًا، واغتر بخلقه من نار، واستخف خلق الصلصال، فأهبطه الله من دار النعيم، فكان من الصاغرين، فسأل الله النظرة إلى يوم الدين، فأعطاه الله النظرة، استحقاقًا للسخطة، واستتمامًا للبلية، فتوعد اللعينُ بإغواء الذرية، ليصرفهم عن مقام خير البرية، فتوعده الله تعالى هو ومن تبعه جهنم صاغرين. ثم أمر سبحانه آدم عليه الصلاة والسلام أن يسكن هو وزوجه الجنة، وأن يتنعم فيها وأهله من كل شيء، إلا من شجرة جعلها الله سبحانه موضع اختبار، فوسوس اللعين بكل طريقة ليزلا في القرار، وما زال يغويهما حتى أكلا منها فبدت سوآتهما فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة - يلزقان بعضه على بعض ليواريا سوآتهما - وناداهما ربهما ألم أحذركم طاعة اللعين، ووسواس الرجيم، وأنه لكم عدو مبين. فأقرا بالذنب والسقوط والزلل، وسألاه سبحانه المغفرة والرحمة فهو يجيب المضطر إذا سأل، ثم قضى لهما الهبوط إلى دار الدنيا، ووصاهما الحذر ثانية من هذا العدو الرجيم، وكتب لهما الحياة فيها والموت فيها إلى أن يأذن الله بالخروج من القبور، في يوم النشور، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
فقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾.
قال ابن كثير: (يقول تعالى مُمْتَنًّا على عبيده فيما مكن لهم من أنه جعل الأرض قرارًا، وجعل لها رواسي وأنهارًا، وجعل لهم فيها منازل وبيوتًا، وأباحَ لهم منافعها، وسخَّرَ لهم السحاب لإخراج أرزاقهم منها، وجعل لهم ﴿فِيهَا مَعَايِشَ﴾ أي: مكاسب وأسبابًا يتَّجرون فيها، ويَتَسَبَّبُون أنواع الأسباب، وأكثرهم مع هذا قليل الشكر على ذلك، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم: ٣٤]).
قال القرطبي: (والمعايش جمع مَعيشة، أي: ما يُتَعَيَّشُ به من المطعم والمشرب وما تكون به الحياة).
والخلاصة: لقد ذلل الله سبحانه أسباب الرزق والعافية لابن آدم، ثم إن أكثرهم