التي كانوا يجلسون فيها أنصَابًا، وسمّوها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد. حتى إذا هلك أولئك ونُسِيَ العلم عُبِدَت) (١).
قال ابن القيم: (قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صَوَّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم) (٢).
وقال القرطبي: (وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بهم، ويتذكروا أفعالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم. ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، فوسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها).
والخلاصة: لقد بعث الله نوحًا - ﷺ - لانتشال قومه من مستنقع الشرك والجاهلية، ويأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، ويحذرهم عذابه يوم القيامة. فتدخل الملأ منهم أي: الجمهور والسادة والقادة والكبراء منهم متهمين نبيّهم بالضلالة. فقال نوح - ﷺ - لهم: يا قوم ما أنا بضال، وإنما أنا رسول من رب العالمين - رب كل شيء وبارئه ومصوره - وقد أرسلني الله مبلغًا رسالته لكم، ناصحًا بالله لا إرب لي بدعوتي لكم إلا الإخلاص لله وحده في إنقاذكم مما أنتم عليه من مخالفة أمره واتباع ما يسخطه في عباداتكم ومعاملاتكم.
قال القرطبي: (النُّصح: إخلاص النية من شوائب الفساد في المعاملة، بخلاف الغشِّ).
وقال القاسمي: (﴿وَأَنْصَحُ لَكُمْ﴾ وأقصد صلاحكم بإخلاص ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي: من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا من طريق الوحي، أشياء لا علم لكم بها، أو أعلم من قدرته الباهرة، وشدة بطشه على أعدائه، وأن بأسه لا يُرَدُّ عن القوم المجرمين ما لا تعلمونه).
قال ابن كثير: (وهذا شأن الرسول أن يكون بليغًا فصيحًا ناصحًا بالله، لا يدركه أحد من خلق الله في هذه الصفات. كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله - ﷺ - قال لأصحابه يوم عَرفة، وهم أوفرُ ما كانوا وأكثر جمعًا: "أيها الناس، إنكم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع

(١) صحيح. انظر صحيح الإمام البخاري (٨/ ٥١١)، (٨/ ٥١٢)، كتاب التفسير - تفسير سورة نوح.
(٢) انظر كتاب "فتح المجيد" (٢٤٥)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (١/ ٤٦٨) لتفصيل البحث.


الصفحة التالية
Icon