وقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي﴾. أي: ائذن لي في القعود والتخلف ولا تفتني بالخروج معك لعدم احتمال رؤية الجواري من نساء الروم، فأجابهم الله تعالى: ﴿أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾، أي بهذا القول قد سقطوا، فإن التكاليف والأوامر الشرعية متحملة ولو ظهر فيها مشقة، فغض البصر أمر شرعي، وقتال الكفار أمر شرعي، وكل التكاليف والأوامر الشرعية مستطاعة.
ذكر الشاطبي: في "الموافقات": (أن المشقة الشرعية لا يجوز دفعها لأنها دفع للتكليف، وبيّن أن المشقة قد تبلغ من الأعمال العادية ما يظن أنه غير معتاد، ولكنه في الحقيقة معتاد، وبين أن العمل الواحد له طرفان وواسطة، فحيث يقول تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾، ثم قال: ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، كان هذا موضع شدة لأنه يقتضي ألا رخصة في التخلف أصلًا ولكنه محمول على أقصى الثقل الذي يمكن إتيانه).
أخرج الطبري في التفسير، وابن إسحاق في السيرة، من طريق عبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمرَ بن قتادة وغيرهم قالوا: (قال رسول الله - ﷺ - ذاتَ يوم، وهو في جهازِه، للجَدِّ بن قيس أخي بني سَلِمَةَ: "هل لك يا جَدُّ في جِلاد بني الأصفر"؟ فقال: يا رسول الله، أو تأذنُ لي ولا تَفْتنِّي، فوالله لقد عَرَفَ قومي ما رجلٌ أشدّ عجبًا بالنساءِ مِنّي، وإني أخشى إن رأيت نساءَ بني الأصفر ألّا أصْبِرَ عنهنَّ. فأعرض عنه رسول الله - ﷺ - وقال: "قد أَذِنْتُ لك".
ففي الجَدِّ بن قيس نزلت هذه: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي...﴾ الآية، أي: إنما كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة بِتَخلّفهِ عن رسول الله - ﷺ - والرغبة بنفسه عن نفسه، أعظم) (١).
وقد كان الجدّ بن قيس من أشرافِ بني سلمة، ويبدو أن الآية السابقة نزلت فيه، ولا شك أنها تنسحب على أمثاله.
أخرج الطبراني في "الكبير" من حديث كعب بن مالك: [أن رسول الله - ﷺ - قال لهم: من سيدكم يا بني سَلِمة؟ قالوا: الجَدُّ بن قيس، على أنا نُبَخِّلُهُ.

(١) أخرجه الطبري في تفسيره (١٦٨٠٣)، وابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (٤/ ٥١٦)، عن غير واحد من التابعين، وله شواهد مرسلة كثيرة يتأيد بها، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد.


الصفحة التالية
Icon