فتصلي لنا فيه! فقال: إني على جناح سفر وحال شُغْلٍ - أو كما قال رسول الله - ﷺ - ولو قد قَدِمْنا أتيناكم إن شاء الله فصلينا لكم فيه) (١).
ثم مضى رسول الله - ﷺ - إلى تبوك، وأذلّ الله أعداءه الروم وكسر شوكتهم وأهان دولتهم، وركب المسلمون هودج النصر وداسوا مُلك قيصر بأقدامهم، وقفلوا عائدين إلى المدينة، فلما نزل النبي - ﷺ - بأصحابه بذوي أوان، وهي على ساعة من المدينة، أصدر أمره هناك إلى بعض أصحابه بحرق مسجد الضرار وهدمه على أهله.
قال ابن إسحاق: (فلما نزل بذي أوان، أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله - ﷺ - مالكَ بن الدُّخشم، أخا بني سالم بن عوف، ومَعْنَ بن عدي، أو أخاه عاصم بن عدي، أخا بني العَجْلان، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهلُه، فاهدماه وحرِّقاه. فخرجا سريعَيْن حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدُّخْشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي. فدخل إلى أهله، فأخذ سَعفًا من النخل، فأشعل فيه نارًا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله، فحرّقاه وهدّماه، وتفرّقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ إلى آخر القصة) (٢).
قال مجاهد: (﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا﴾، قال: المنافقون، ﴿لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾، لأبي عامر الراهب). أي "إرصادًا" له، وإعدادًا لأجل ذاك الفاسق.
وقوله: ﴿ضِرَارًا﴾ مفعول لأجله، أي مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء. ﴿وَكُفْرًا﴾ أي تقوية للنفاق وأهله، ﴿وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، قال ابن زيد: (لئلا يصلي في مسجد قباء جميع المؤمنين). فأرادوا تفريقهم واختلاف كلمتهم ففضحهم الله.
وقوله: ﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.
أي: يحلف بانوه أنهم إنما أرادوا ببنائه الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل
(٢) انظر سيرة ابن هشام - في أعقاب تبوك - (٢/ ٥٣٠)، والمرجع السابق (٣/ ١٥٣٦).