وعن قتادة: (﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ قال: لبث أربعين سنة).
والخلاصة في معنى الآية: قل لهم - يا محمد - لهؤلاء المتنطعين الذين يريدون تبديل هذا القرآن ليأتي بأحكام تناسب أهواءهم -: إنّ الله تعالى لو شاء ما حذّرتكم به ولا أعلمكم به، فقد مكثت فيكم أربعين سنة قبل أن أتلوه عليكم، وذلك قبل أن يوحيه الله إلي.
قال ابن جرير: (﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، أني لو كنت منتحلًا ما ليس لي من القول، كنت قد انتحلته في أيام شبابي وحَداثتي، وقبل الوقت الذي تلوته عليكم، فقد كان لي اليوم، لو لم يوحَ إليّ وأُومر بتلاوته عليكم، مندوحةٌ عن معاداتكم، ومتَّسَعٌ، في الحال التي كنت بها منكم قبل أن يوحى إليَّ وأومر بتلاوته عليكم).
وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾.
أي: ليس هناك أشد ظلمًا وأكبر إجرامًا ممن تطاول بالكذب على الله أو كذّب بآياته. قال ابن كثير: (ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء، فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء؟ ! ).
قلت: إنه ما من شخص يتصدى لأمر الناس إلا وسلّطَ الناس أنظارهم عليه لدراسة أحواله، فما تمر الأعوام إلا وقد انكشف على حقيقته، وخاصة إذا تقلب بين أوضاع الضعف والقوة، والخوف والأمن، والفقر والغنى، وقلة الأتباع وكثرتهم، والشدة والرخاء، كما حدث في حياة نبينا محمد - ﷺ -. وإذا تأملنا أحواله وجدْناها تشهد بأنها أحوال لا تكون إلا لنبي، ولقد شهد له قومه بالصدق فسمَّوه قبل أن يبعثه الله بالرسالة "الصادق الأمين"، حتى قال له أبو جهل: "إنا لا نكذبك، ولكن نكذِّبُ ما جئت به" فأنزل الله قوله: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣].
أخرج الترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: [أول ما قدم رسول الله - ﷺ - المدينة انجفل الناس إليه فكنت فيمن جاءه، فلما تأملت وجهه واستبنته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذّاب. قال: فكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: أيها