على معارضته بمثله، وهو تصديق للكتب التي قبله، وفيه بيان مجمل الأحكام، وأمور الحلال والحرام، من الله رب العالمين. فإن زعم المبطلون أنك افتريته - يا محمد - فاسألهم أن يخوضوا في محاولةِ مشابهة سورة منه، وليستعينوا بمن شاؤوا لتحقيق ذلك إن كانوا صادقين. وإنما كذب المشركون بهذا القرآن تطاولًا وبغيًا ولم يقدروا حقه، شأن المكذبين الذين درجوا في الأمم عبر الزمان، ودكهم الله بعذابه، وأوعدهم في الآخرة أليم عقابه. إنه سيؤمن به بعضهم ويُصِدّ آخرون على الكفر به كما هو سابق في علم الله، فهو سبحانه عليم بالمصلحين والمفسدين.
فقوله: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾. قال ابن جرير: (يقول: ما ينبغي له أن يتخرّصه أحد من عند غير الله). وهذا بيانٌ من الله لإعجاز هذا الكتاب العظيم، فإنه لا يقدر أحد أو يتجرأ على مشابهته في فصاحته وبلاغته وجوامع كلمه وحلاوة آياته وعذوبة معانيه.
وقوله: ﴿وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾. أي: من الكتب قبله التي أنزلها الله على أنبيائه كالتوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله. ﴿وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. قال ابن كثير: (أي: وبيان الأحكام والحلال والحرام، بيانًا شافيًا كافيًا حقًا لا مِرْيَةَ فيه من الله رب العالمين).
وقوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾. قال القاسمي: (أي إن كان الأمر كما تزعمون، فأتوا على وجه الافتراء، بسورة مثله في البلاغة، وحسن الصياغة، وقوة المعنى، فأنتم مثل في العربية والفصاحة، وأشد تمرنًا في النظم، ﴿وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي ادعو من دونه تعالى، ما استطعتم من خلقه، للاستعانة به على الإتيان بمثله - إن صدقتم في أني اختلقته - فإنه لا يقدر عليه أحد).
والآية في موضع التحدي الذي تدرج في مراتب ثلاث:
المرتبة الأولى: المجيء بنظير هذا القرآن جملة. قال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٨].
المرتبة الثانية: المجيء بعشر سور مثله. قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [هود: ١٣].