وقوله: ﴿أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾. - فيه أكثر من تأويل:
التأويل الأول: قال ابن عباس: (﴿يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ﴾: يُغَطُون رؤوسهم) - أخرجه البخاري.
التأويل الثاني: قال قتادة: (﴿يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ﴾ قال: أخفى ما يكون الإنسان إذا أسَرَّ في نفسه شيئًا وتَغَطّى بثوبه، فذلك أخفى ما يكون، والله يطلع على ما في نفوسهم والله يعلم ما يسرُّون وما يعلنون).
وبنحوه ذكر عكرمة عن ابن عباس قال: (الشك في الله، وعمل السيئات، فيستغشي ثيابه، ويستكنّ من الله، والله يراه، ويعلم ما يسرون وما يعلنون). وقال: (﴿أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾، يقول: يكتمون ما في قلوبهم، ﴿أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ﴾، يعلم ما عملوا بالليل والنهار).
التأويل الثالث: قال ابن أبي مليكة: سمعت ابن عباس يقرأ: "ألا إنهم تَثْنَوني صدورهم"، قال: (كانوا لا يأتون النساء ولا الغائط إلا وقد تغشوا بثيابهم، كراهة أن يُفْضُوا بفروجهم إلى السماء) - وبنحوه روى البخاري.
التأويل الرابع: عن مجاهد والحسن: (أي إنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئًا أو عملوه، يظنون أنهم يستخفون من الله بذلك، فأخبرهم الله تعالى أنهم حين يستغشون ثيابهم عند منامِهم في ظلمة الليل، ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ﴾ من القول: ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾، أي: يعلم ما تُكِنُّ صدورُهم من النيات والضمائر والسرائر) - ذكره ابن كثير، وهو يشبه التأويل الثاني.
قلت: والبيان الإلهي يحتمل آفاق هذه المعاني كلها، وهو من إعجاز هذا الوحي العظيم.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.
إخبار من الله تعالى أنه متكفِّل بأرزاق خلقه من جميع أصناف الدواب في الأرض، إنْسيها وجِنِّيها، بَحريها وبَرِّيها، صغيرها وكبيرها. وأنه تعالى يعلم منتهى سيرها ومأواها قبل خلقها وبعد إخراجها من أصلاب ذكورها وأرحام إناثها، وكل ذلك مكتوب عنده سبحانه في اللوح المحفوظ.