ولم يزل هذا جائزًا من لدن آدَمَ إلى شريعة عيسى - عليه السلام - فحرَّم هذا في هذه الملة، وجُعِلَ السجود مختصًا بجناب الرب سبحانه وتعالى. هذا مضمون قول قتادة وغيره. وفي الحديث، أن معاذًا قدِمَ الشام فوجَدَهم يسجدون لأساقفتهم، فلما رجَعَ سَجَدَ لرسول الله - ﷺ - فقال: ما هذا يا معاذ؟ فقال: إني رأيتهم يسجُدون لأساقفتهم، وأنت أحق أن يُسجدَ لك يا رسول الله! فقال: "لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجُدَ لأحدٍ لأمرتُ الزوجة أن تسجُدَ لزوجها من عِظَم حَقِّه عليها" (١)).
وقوله: ﴿وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾.
قال يوسف لأبيه: يا أبت، هذا ما آلت إليه رؤياي أيام الصبا، حين رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر كلهم لي ساجدون، فهو هذا السجود الذي سجدت أنت وأمي وإخوتي لي، فقد حقّقها ربي عز وجل.
وقوله: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ﴾.
قال قتادة: (وكان يعقوب وبنوه بأرض كنعان، أهل مواشٍ وبرّية).
وقال ابن جريج: (كانوا أهل بادية وماشية، وقال: كانوا يسكنون بالعَرَبات من أرض فلسطين، من غور الشام، قال: وبعضٌ يقول: كانوا بالأولاج من ناحيةِ شِعْبٍ أسفلَ من حُسْمى، وكانوا اصحاب باديةٍ وشاءٍ وإبل).
والخلاصة: يتذكر يوسف عليه الصلاة والسلام نعم الله عليه إذ أخرجه من السجن وعزّزه وكرّمه، وحمل إليه أهله من البادية ليرونه على أحسن حال، وفي أبّهة الملك والسلطان، ومع ذلك فهو يملك نفسًا عالية رفيعة بعيدة عن أحوال الملوك والسلاطين وما يعتريهم من الكبر والعجب، وهو اليوم يصفح عن إخوته ولا يشمت بهم ولا يجرح مشاعرهم بل يقول: ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾.
قال النسفي: (ولم يذكر الجُبَّ لقوله لا تثريب عليكم اليوم ﴿وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ﴾ من البادية لأنهم كانوا أصحاب مواش ينتقلون في المياه والمناجع ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ أي: أفسد بيننا وأغرى ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ﴾ أي: لطيف