قال ابن كثير: (هذا تعجب من زكريا - عليه السلام- حين أُجيبَ إلى ما سأل، وَبُشِّرَ بالولد، ففرح فرحًا شديدًا، وسأل عن كيفية ما يُولَدُ له، والوجهُ الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأتهُ عاقرٌ لم تَلد من أول عمرها مع كِبَرِها، ومع أنه قد كبر وعَتا، أي: عسَا عَظْمُهُ ونحُل، ولم يبق فيه لقاحٌ ولا جماع).
وقوله تعالى: ﴿قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾.
أي: قال الملكُ مجيبًا لزكريا فيما تَعَجَّبَ منه: هذا قضاء الله في إيجاد الولد منكَ ومن زوجتك، وهو أمر يسير سَهْل على الله تعالى وأعجبُ من ذلك أن أوجدتكَ من قبل يحيى ولم تك شيئًا بل كنتَ عدمًا. قال القرطبي: (أي كما خلقكَ اللهُ تعالى بعد العدم ولم تك شيئًا موجودًا، فهو القادر على خلق يحيى وإيجاده).
وفي التنزيل نحو ذلك: قوله سبحانه: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [الإنسان: ١].
وقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾.
قال ابن زيد: (قال: قال رب اجعل لي آية أن هذا منك). يعني: اجعل لي علامةً ودليلًا على ما بشرتني به ملائكتكَ من قدوم هذا الغلام عن أمرك ورسالتك، ليطمئن قلبي وتسكن نفسي إلى ما وعدتني. قال: آيتكَ أن يُحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال، وأنتَ صحيح سوي من غير مرض ولا علة.
وعن ابن عباس: (قوله: ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾. قال: ثلاث ليال متتابعات).
قال السدي: (يقول من غير خَرَس إلا رمزًا، فاعتُقل لسانهُ ثلاثة أيام وثلاث ليال).
وقال ابن زيد: (فحبس لسانه، فكان لا يستطيع أن يكلم أحدًا، وهو في ذلكَ يسبح، ويقرأ التوراة ويقرأ الإنجيل، فإذا أرادَ كلام الناس لم يستطع أن يكلمهم).
قلت: والذي ذهب إليه ابن زيد هو الراجح في فهم الآية، لموافقة ذلكَ لقوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾.