قال: وَمَنْ قَوِيَتْ معرفته لله ومعرفته لرسوله وقدره عندَ الله في قلبه، قال كما قال أبو أيوب وغيره من سادات الصحابة، لما سمعوا ذلك: ﴿سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (١٦)﴾) (١).
٥ - تمحيص الله لقلوب المؤمنين بالابتلاء وتأخر الوحي:
فقد كانت الأيام التي وافقت حادثة الإفك مدرسة للصحابة ليتلقوا فيها تربية خاصة يراد منها أن ترفعهم وتصقل نفوسهم وقلوبهم.
وقد فصّل ابن القيم القول في ذلك فقال: (فإن قيل: فما بال رسول الله - ﷺ - توقَّفَ في أمرها، وسأل عنها، وبحث، واستشار، وهو أعرفُ بالله، وبمنزلتِهِ عنده، وبما يليق به، وهَلَّا قال: سُبْحانك هذا بُهتان عظيم، كما قاله فضلاءُ الصحابة؟ فالجوابُ: أن هذا من تمام الحِكَمِ الباهِرَةِ التي جعل اللهُ هذه القصة سببًا لها، وامتحانًا وابتلاءً لرسوله - ﷺ -، ولجميع الأمة إلى يومِ القيامة، ليرفع بهذه القصة أقوامًا، ويضعَ بها آخرين، ويزيدَ الله الذين اهتَدوا هُدىَ وإيمانًا، ولا يزيد الظالمين إلا خسارًا، واقتضى تمامُ الامتحان والابتلاء أن حُبِسَ عن رسول الله - ﷺ - الوحي شهرًا في شأنها، لا يُوحى إليه في ذلك شيء لتتم حِكمتُهُ التي قدَّرها وقضاها، وتظهرَ على أكمل الوجوه، ويزدادَ المؤمنون الصادقون إيمانًا وثباتًا على العدل والصدق، وحُسْنِ الظن بالله ورسوله، وأهل بيته، والصديقين من عباده، ويزداد المنافقون إفكًا ونفاقًا، وَيُظْهِر لرسوله وللمؤمنين سرائرهم، ولتتم العبودية المرادةُ من الصديقة وأبويها، وتَتمَ نعمةُ الله عليهم، ولتشتد الفاقةُ والرغبة منها ومِن أبويها، والافتقارُ إلى الله والذلُّ له، وحُسْنُ الظن به، والرجاء له، ولينقطع رجاؤها من المخلوقين، وتيأسَ من حصول النُّصْرَةِ والفرج على يد أحد من الخلق، ولهذا وفّتْ هذا المقام حقَّه، لما قال لها أبواها: قُومي إليه، وقد أنزل اللهُ عليه براءتَها، فقالت: والله لا أقومُ إليه، ولا أحْمَدُ إلا الله، هو الذي أنزل براءتي.
وأيضًا فكان من حِكمة حَبْسِ الوحي شهرًا، أن القضية مُحِّصَتْ وتمحَّضَتْ.. فوافى الوحي أحوجَ ما كان إليه رسول الله - ﷺ - وأهلُ بيته، والصِّدِيقُ وأهلُه، وأصحابُه والمؤمنون، فورد عليهم ورودَ الغيث على الأرض أحوجَ ما كانت إليه.

(١) انظر تمام ذلك في كتاب: "زاد المعاد" (٣/ ٢٦٠).


الصفحة التالية
Icon