وفي قوله: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ قال: يعني إيمان المؤمن وعمله.
القول الثالث: قيل هو مثل للمؤمن، والمصباح مثل لفؤاده، والمشكاة مثل لجوفه.
قال مجاهد: (المصباح وما فيه مثل فؤاد المؤمن وجوفه، المصباح مثل الفؤاد، والكوّة مثل الجوف).
وقيل غير ذلك، واختار ابن جرير قول من قال: ذلك مثل ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به، فقال: (مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد، الذي أنزله إليهم، فآمنوا به، وصدقوا بما فيه، في قلوب المؤمنين، مثل مشكاة، وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة.. ﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ وهو السراج، وجعل السراج وهو المصباح مثلًا لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات المبينات ثم قال: ﴿الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ﴾.. فقال: الزجاجة، وذلك صدر المؤمن الذي فيه قلبه كأنها كوكب دري. قال: مثل الصدر في خلوصه من الكفر بالله والشك فيه، واستناره بنور القرآن، واستضاءته بآيات ربه المبينات، ومواعظه فيها، بالكوكب الدري).
قلت: وجميع الأقوال متقاربة، وهي اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وإن كنت أميل إلى القول الثاني وتفصيلاته الدقيقة، وأن معنى قوله: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ هو نور الوحي على نور الإيمان، نور السنة على نور الفطرة، نور التشريع والدين الحق على نور الميثاق، نور الهداية طَمَسَ ظلمة الشهوات وازدحامها على النفس والعقل والقلب، نورٌ على نور، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
إن أساس التوازن الصحيح بين إرشاد العقل ومحاكماته الدقيقة من جهة، وبين ضغط قوى الغرائز وميلها إلى التفلت من جهة أخرى، هو الاستعانة بالله العظيم، والاستمداد من وحيه الكريم، وهو معنى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾. فلا نجاة للعبد من خطر نفسه واندفاع غرائزه إلا بموازنة ذلك بعلم الكتاب والسنة، وملء العقل والقلب بنورهما المشع، الذي ينعكس صحةً في العقل وقراراته ومحاكماته، ونورًا في القلب وهدى وأمنًا واستقرارًا في حركاته وتقلباته، وحركة صحيحة وعملًا صالحًا يظهر على الجوارح.
وقوله: ﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾. أي: يعاقب الله ذكر الأمثال في القرآن لتنبيه عباده إلى منافعهم ومصالح دنياهم وأخراهم، وهذا المثل


الصفحة التالية
Icon