قال: فرأيت النبي - ﷺ - ضَحِكَ حتى بَدَتْ نواجِذُهُ، ثم قال: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الزمر: ٦٧]] (١).
وقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (٢٧) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾.
بيان لندم الظالم يوم القيامة غاية الندم، حتى يعض على يديه من شدة ما اجترح من الآثام، ورفقة سيِّئ الخِلّان، حتى أسرف على نفسه بالكبر والكفر وطاعة الشيطان، وهنالك يتبرأ اللعين منه ويخذله كما خذله في الدنيا عن طاعة ربه، وزين له المعصية ليركبها، ومازال يمنيه الطاعة ليسوِّفها.
أخرج أبو نعيم في (الدلائل)، وابن مردويه بسند يرقى للحسن، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: [أنّ أبا معيط كان يجلس مع النبي - ﷺ - بمكة لا يؤذيه، وكان رجلًا حليمًا، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه، وكان لأبي معيط خليل غائب عنه بالشام، فقالت قريش: صبأ أبو معيط، وقدم خليله من الشام ليلًا فقال لامرأته: ما فعل محمد مما كان عليه؟ فقالت: أشدّ مما كان أمر! فقال: ما فعل خليلي أبو معيط؟ فقالت: صَبَأ، فبات بليلة سوء! فلما أصبح أتاه أبو معيط فَحَيَّاه فلم يردّ عليه التحية فقال: ما لك لا تردّ عليَّ تحيتي؟ فقال: كيف أرد عليك تحيتك وقد صبوت؟ فقال: أو قد فعلتها قريش؟ قال: فما يبرئ صدورهم إنْ أنا فعلت؟ قال: تأتيه في مجلسه وتبزق في وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلمه من الشتم ففعل، فلم يزد النبي - ﷺ - أن مسح وجهه من البزاق ثم التفت إليه فقال: إن وجدتك خارجًا من جبال مكة أضرب عنقك صبرًا، فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج، فقال له أصحابه: اخرج معنا، قال: قد وعدني هذا الرجل إنْ وجدني خارجًا من جبال مكة أن يضرب عنقي صبرًا، فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك، فلو كانت الهزيمة طرت عليه، فخرج معهم فلما هزم الله المشركين وَحَلَ (٢) به جمله في جدد من الأرض، فأخذه رسول الله - ﷺ - أسيرًا في سبعين من قريش، وقدم إليه أبو معيط، فقال: تقتلني من بين هؤلاء؟ قال: نعم، بما بزقت في وجهي، فأنزل الله في أبي معيط: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ﴾ إلى
(٢) أي وقع في الوحل.