وقال ابن زيد: (﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ قال: الإسلام).
قلت: والآية مكية، والمقصود بذل الوسع في مجاهدة الكفار بالوحي العظيم، وامتثال أحكام الدين. وفي هذا درسٌ بليغ للمسلمين أيام الغربة في كل زمان، فإن أعظم الجهاد يكون بالقرآن، واتباع هدي سيد الأنام، وإقامة شرائع الإسلام في النفس والبيت والمسجد والمجتمع حتى يأذن الله تعالى بإقامة دولة الحق.
وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾. أي خلق الماءين: الحلو والمالح. قال القاسمي: (أرسلهما متجاورين متلاصقين، بحيث لا يتمازجان ﴿هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ﴾ أي شديد العذوبة قامع للظمأ ﴿وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ أي بليغ الملوحة ﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا﴾ أي حاجزًا لا يختلط أحدهما بالآخر ﴿وَحِجْرًا مَحْجُورًا﴾ أي منعًا من وصول أثر أحدهما إلى الآخر، وامتزاجه به، حتى بعد دخول أحدهما في الآخر مسافة).
وخلاصة معنى الآية: تذكير الله عباده ببعض نعمه العظيمة، فها هو الماء العذب أودعه مسارب ضخمة كالأنهار والعيون والآبار، وهو في حركته يحافظ على المذاق الحلو الفرات العذب الزُّلال. وذاك الماء المالح المُرُّ الزُّعاق أودعه الله تعالى المحيطات والبحار، فهي منشآت ساكنة مالحة الماء، لئلا يحصل بسببها نَتَنُ الهواء، فيفسد الوجود بذلك. فهي تجمع بملوحتها بين طهارة الماء، وصحة الهواء، وكون ميتتها طيبة.
أخرج أبو داود وابن ماجة -واللفظ له- عن أبي هريرة قال: [جاء رجل إلى رسول الله - ﷺ - فقال: يا رسول الله! إنا تركب البحر. ونحمل معنا القليل من الماء. فإن توضأنا به عطشنا. أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال رسول الله - ﷺ -: هو الطَّهورُ ماؤه، الحِلُّ مَيْتَتُهُ] وسنده صحيح (١).
وفي التنزيل: وصف بديع للبرزخ بين البحرين الحلو والمالح، وهو الحاجز بينهما من اليابسة من الأرض، ثم الاختلاط بينهما دون تمازج.
١ - قال تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (١٩) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ١٩ - ٢١].