أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير}). قال ابن عطاء: (نظر من العبوديةِ إلى الربوبية وتكلم بلسان الافتقار، لما ورد على سره من الأنوار).
قلت: وقد أكثر المفسرون هنا من روايات لا تقوم بها الحجة فصرفوا الآية إلى حاجة موسى إلى الطعام وليسَ له دراهم وقد اشتد عليه الجوع. والأَوْلى أن يكون قال ذلكَ تواضعًا لله وعظمته أن أعطاه ما أعطاه من القوة والعلم، وصرفَ عنه طلب أهل الظلم، ورعاه منذ طفولتهِ إلى أن أوصلهُ إلى مضارب هؤلاء القومِ، وهو الآن يطمعُ في خيرِ ربهِ من أسباب القوةِ والمال والنجاة والعناية بشكلها الأعم.
وقوله: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾.
في الكلام محذوف، والتقدير: فذهبتا مسرعتين إلى أبيهما على غير عادتهما، فأخبرتاه عن روعة هذا الرجل الذي سقى لهما، فأمر إحداهما أن تذهب وتدعوه له.
فجاءته تمشي على استحياء. أي: مَشْي الحرائر. قال النسفي: (أي: مستحية، وهذا دليل كمال إيمانها وشرف عنصرها لأنها كانت تدعوهُ إلى ضيافتها، ولم تعلم أيجيبها أم لا، فأتته مستحية قد استترت بكم درعها).
وجملة: ﴿عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾ في محل نصب حال. أي جاءته مستحية.
وروى ابن جرير بسنده عن ضرار بن عبد الله بن أبي الهُذيل عن عمر رضي اللهُ عَنْهُ قال: (مستترة بِكمِّ درعها، أو بكم قميصها). أو قال: (واضعة يدها على وجهها مستترة). ودِرْعُ المرأةِ: قميصها- والمِدْرعة: ثوبٌ لا يكون إلا من صوف.
وروى ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن عمرو بن ميمون قال: قال عُمر -رضي اللهُ عَنْهُ-: (جاءَتْ تمشي على استحياء، قائِلةً بِثَوبها، على وَجْهِها، ليست بِسَلْفَعٍ من النساء، خرَّاجَةً ولّاجَةً) (١).
وقوله: ﴿قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾.
قال ابن كثير: (وهذا تأدُّبٌ في العبارة، لم تطلبهُ طلبًا مُطلقًا لئلا يُوهِمَ ريبةً، بل قالت: ﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾، يعني: لِيُثِيبَكَ ويُكافِئَكَ على سَقْيِكَ لغنمنا).