لها مظاهر من إعراضهم وكبرهم وأقوالهم وأفعالهم التي استحقوا بها التشريد والعذاب، ومن ذلك طلبهم المباعدة بين قراهم ظلمًا وعلوًا في الأرض.
قال ابن زيد: (﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾ حتى نبيت في الفلوات والصحارى، ﴿وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ قال: وكان ظلمهمِ إياها عملَهم بما يسخط الله عليهم من معاصيه مما يوجب لهم عقاب الله. ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ يقول: صيَّرناهم أحاديث للناس يضربون بهم المثل في السبِّ فيقال: تفرق القوم أيادي سبأ، وأيدي سبأ إذا تفرقوا وتقطعوا).
ولعَمْر الله كم ضيَّع المسلمون من النعم والبساتين والمياه العذبة بمعاصيهم، فهي قصة تتكرر منذ ذلك الزمان، فإذا ما رأيت طبيعة غناء تجري تحت بساتينها الأنهار رأيت محاولة الناس للتفلت من الأدب والحياء مع ربهم سبحانه الذي أنعم عليهم بهذا الجمال، وبهذه الأنهار والثمار، من أجل سرورهم وسعادتهم، فتراهم بدلًا من الشكر والحمد لله المنعم المتعال يرقصون ويغنون بالغناء الماجن، ويتكشفون رجالًا ونساءً لتظهر سوءاتهم وعوراتهم، ويشربون الخمور ويرفعون أصوات معازفهم وكأنهم مسخوا قردة وخنازير. كما قال القائل:
وعند الينابيع حاناتهم... وقرب المياه وتحت الشجر
ونسوتهم عاريات وقد... أضعن الحياء وطهر الخضر
فلا من يغار على عرضه... ولا من يقوم بغض البصر
مقاه تعج بروَّادها... لقيل وقال ولعب الزهر
وخلف الإمام ترى واحدًا... أو اثنين في صلوات السحر
فقد أسهروا خلف راء لهم... وناموا عن الفجر بعد السهر
وقاموا وللشمس رمضاؤها... كمن قد أصيب بمس وضر
فيبدل الله تلك الحدائق الغناء بفلوات وصحارى، أو بعمران مستمر يغيب معه اللون الأخضر، ويغور الماء في الأرض، لتتكرر المأساة ببغي الناس وعصيانهم كما فعل بقوم سبأ.
قال قتادة: قال عامر الشعبي: (أما غسّان فقد لحقوا بالشام، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، وأما الأزد فلحقوا بعُمان).
فقد خرجت غسّان إلى بصرى، وخرج الأوس والخزرج إلى يثرب ذات نخل، فأتوا على بطن مر، فقال بنو عثمان: (هذا مكان صالح لا ينبغي به بدلًا). فأقاموا فيه


الصفحة التالية
Icon