فسموا لذلك خزاعة؛ لأنهم انخزعوا من أصحابهم، واستقامت الأوس والخزرج حتى نزلوا المدينة، ونزلت "أزد السراة" السراة، ونزلت "أزد عمان" عمان، ثم أرسل الله تعالى على السد فهدمه، فكان ما حلّ بهم من تبديل النعمة وتحويل العافية عقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والآثام لعبرة لكل صبار على المصائب صبور على النعم، فالمؤمن متوازن في قلبه ومشاعره بين الشكر وبين الصبر دومًا.
فقد أخرج البيهقي بإسناد صحيح عن سعد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - ﷺ -: [عجبت للمسلم إذا أصابته مصيبة احتسب وصبر، وإذا أصابه خير حمد الله وشكر، إن المسلم يؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه] (١).
وله شاهد في زوائد المسند بإسناد جيد عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - ﷺ - قال: أعجبت للمؤمن، إن الله تعالى لم يقض له قضاءً إلا كان خيرًا له] (٢).
ولذلك قال قتادة في قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾، قال: (كان مُطَرِّف يقول: نعم العبد الصبار الشعكور، الذي إذا أُعْطيَ شكر وإذا ابْتُليَ صبر).
وهذه الصفة لا تجدها إلا عند المؤمن، فإن خوفه من الله وحبّه له يجعله بين هذين المقامين، مقام الصبر ومقام الشكر، ولا يشترك معه أحد به، فمن لم يمتلئ قلبه بتعظيم الله وخوفه فلربما تذمر ونطق بالسخط عند المصيبة، ولربما شتم وكفر، فلذلك أُفرد المؤمن بهذا النعت الطيب.
ففي صحيح مسلم من حديث صهيب مرفوعًا: [عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له] (٣).
وقوله: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ﴾.
قرأ عامة قراء الكوفة "صَدَّق" بالتشديد، بمعنى أنه قال إبليس ظنًا منه: ﴿وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٧]، وقال: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣)﴾ [ص: ٨٢، ٨٣]. ثم صَدَّق ظنه ذلك فيهم، فحقق ذلك بهم وباتباعهم

(١) حديث صحيح. أخرجه البيهقي، والطيالسي (٢١١) بإسناد صحيح، وله شاهد في مسند أحمد (٦/ ١٣). وانظر صحيح الجامع (٣٨٨١)، والسلسلة الصحيحة (١٤٧).
(٢) إسناده صحيح. أخرجه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه (٥/ ٢٤)، وأبو يعلى (٢/ ٢٠٠).
(٣) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (٢٠٩٢)، وصحيح مسلم (٢٩٩٩) كتاب الزهد.


الصفحة التالية
Icon