وقوله: ﴿قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
هو كقوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: ٦]. أي: فلا تسألون عما أجرمنا أي اكتسبنا، ونحن لا نُسأل أيضًا عما تعملون، فإنما نقصد الخير لكم. قال ابن كثير: (معناه التبري منهم).
وفي التنزيل:
﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١)﴾ [يونس: ٤١].
قلت: وفي الآية لطائف تربوية في عمل الدعوة، حيث أسند الإجرام إلى النفس وأراد به الزلات والصغائر التي لا يخلو منها مؤمن، وذكر هذ الإجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي الذي يفيد تحقيق المعنى، ثم أسند العمل إلى المخاطبين وأراد به الكفر والمعاصي والكبائر، فعبَّر عن الهفوات بما يعبر به عن العظائم، وعن العظائم بما يعبر به عن الهفوات التزامًا لمنهج الإنصاف، وعبر عن العمل بصيغة الحاضر لا بصيغة الماضي، فقدمت الآية بذلك منهجًا للدعاة إلى الله أن لا ينزهوا أنفسهم عند دعوة غيرهم، بل لا بد أن تترافق دعوتهم مع إظهار الحذر على أنفسهم مما يحذِّرون، وعلى التواضع المعبر عن حاجتهم أولًا لما يدعون ولما ينصحون.
وقوله: ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾. قال قتادة: (﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا﴾ يوم القيامة ﴿ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا﴾ أي يقضي بيننا). وقوله: ﴿وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾. قال ابن عباس: (القاضي). فيومئذ يتبين المهتدي من الضال كما قال جل ذكره: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (١٦)﴾ [الروم: ١٤ - ١٦]. فالله سبحانه هو الفتاح العليم فلا يحتاج لشهود تعرفه المحق من المبطل.
والفتاح: هو الحاكم بين عباده. يقال: فتحَ الحاكم بين الخصمين: إذا فصل بينهما، ويقال للحاكم: الفاتح، وقيل: هو الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده، والمُنْغَلِقَ عليهم من أرزاقه. قال ابن كثير: ﴿وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾ أي: الحاكم العادل العالم بحقائق الأمور). وفي سورة الأعراف: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ والعليم: شديد العلم بحقائق الأمور، وتفصيل ذلك في كتابي أصل الدين