النار، وأخذهم من قرب فالكل قريب منه فلا ينفعهم إيمان بعد رؤية العذاب، وقد تركوا الإيمان في الدنيا وحاربوا أهله وعطلوا الحكم بأمر الله وتحاكموا لأهوائهم، فإنى لهم من مكان بعيد - من الآخرة إلى الدنيا - أن يحدثوا توبة وقد فات الأمر وحيل بينهم وبين الرجوع للدنيا، كما فُعل بمن قبلهم من الكفار الذين قضوا حياتهم في ريب وشك بالله والآخرة.
فقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ﴾. قال مجاهد: (بطاعة الله)، ﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى﴾ قال: (واحدًا واثنين). وقال السدي: (وُحدانًا ومجتمعين). وقال قتادة: (رجلًا ورجلين). و ﴿أَنْ﴾ في محل جر بدلًا من الواحدة، أو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي، أي: (هي أن تقوموا). واختار الزجاج أن تكون بموضع نصب بمعنى لأن تقوموا.
والقيام: المقصود به، القيام لطلب الحق، وليس مضاد القعود. كما قال جل ذكره: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ [النساء: ١٢٧].
وقيل: ﴿مَثْنَى وَفُرَادَى﴾ (منفردًا برأيه ومشاورًا لغيره). وقيل: (مناظرًا مع غيره ومفكرًا في نفسه). وقيل: (المثنى عمل النهار والفرادى عمل الليل) - حكاه الماوردي.
قال القرطبي: (وقيل: إنما قال مثنى وفرادى لأن الذهن حجة الله على العباد وهو العقل، فأوفرهم عقلًا أوفرهم حظًا من الله، فإذا كانوا فرادى كانت فكرة واحدة، وإذا كانوا مثنى تقابل الذهنان فتراءى من العلم لهما ما أضعف على الانفراد والله أعلم).
وقال ابن جرير: (يقوم الرجل منكم مع آخر فيتصادقان على المناظرة، هل علمتم بمحمد - ﷺ - جنونًا قط، ثم ينفرد كل واحد منكم فيتفكر ويعتبر فردًا هل كان ذلك به فتعلموا حينئذ أنه نذير لكم).
قلت: وإنما وعظهم القيام للدعوة والتماس الحق مثنى وفرادى وليس مع العامة لأن الجموع الكثيرة مظنة الضياع والفوضى ولا تكاد تجدها على الحق.
وعند قوله: ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾، الوقوف هنا، عند أبي حاتم وابن الأنباري.
وقيل: ليس بوقف لأن المعنى: ثم تتفكروا هل جربتم على صاحبكم كذبًا أو رأيتم فيه جِنَّة أو في أحواله من فساد، أو اختلف إلى أحد ممن يدعي العلم بالسحر، أو تعلم الأقاصيص وقرأ الكتب أو عرفتموه بالطمع في أموالكم، أو تقدرون على معارضته في سورة واحدة، فإذا عرفتم بهذا الفكر صدقه فما بال هذه المعاندة؟ حكاه القرطبي.