وروي عن ابن عباس: أنه أربعون سنة. ووجهه قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾. ففي الأربعين تكامل العقل وما قبله وما بعده منتقص عنه. كما قال مالك رحمه الله: (أدركت أهل الدنيا ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم ويخالطون الناس، حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالقيامة حتى يأتيهم الموت) ذكره القرطبي رحمه الله.
وكان مسروق يقول: (إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حِذْرَه من الله).
ثم قوله جل وعز: ﴿وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ فيه تفاسير متكاملة:
١ - عن ابن زيد: (﴿وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾. قال: النذير النبي، وقرأ: ﴿هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى﴾).
٢ - وعن ابن عباس: (﴿وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾. قال: يعني الشيب).
٣ - وقيل: (النذير: الحمى)، وقيل: (موت الأهل والأقارب). وقيل: (كمال العقل).
قال قتادة: (احتج عليهم بالعمر والرسل).
وهذا كما قال جل ثناؤه يصف نداءهم في موضع آخر: ﴿وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾. أي جاء الرسل بالحق فخالفتموهم، ومن ثم فلا مانع من دلالة النذير على الشيب وعلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكلاهما نذير، وكذلك على كل ما يُذَكِّر باقتراب الأجل والوعد الحق، والله تعالى أعلم.
قال القرطبي رحمه الله: (فالشيب والحمى وموت الأهل كله إنذار بالموت. قال: والشيب نذير أيضًا لأنه يأتي في سن الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سنّ الصِّبا الذي هو سِنُّ اللهو واللعب).
وقال بعضهم:

رأيت الشيب من نُذُرِ المنايا لصاحبه وحَسْبُكَ من نذير
قلت: ولذلك رغّب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإكثار من ذكر الموت وسمّاه هادم اللذات.
فقد أخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: [أكثروا ذكرَ هادم اللذات: الموت، فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا


الصفحة التالية
Icon