والحديث عن قريش، فقد أقسم مُشركوهم قبل أن يبعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- حين علموا تكذيب أهل الكتاب رسلهم فلعنوا من كذّب نبيه منهم وبالغوا بالإقسام بأشد الأيمان فأقسموا بالله جل اسمه لئن جاءهم نذير -أي نبيّ- ليكونن أسلك لطريق الحق من إحدى الأمم التي خلت، فلما جاءهم نذير -وهو محمد -صلى الله عليه وسلم- استكبروا وكذبوا ونفروا.
فعن قتادة: (قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ﴾، قال: وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-).
وقوله: ﴿اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ﴾. قال ابن جرير: (نفروا استكبارًا في الأرض وخُدْعة سيئة، وذلك أنهم صدّوا الضعفاء عن اتباعه مع كفرهم به. والمكر هاهنا: هو الشرك. قال: وأضيف المكر إلى السَّيئ، والسَّيئ من نعت المكر كما قيل: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾).
وقال قتادة: (﴿وَمَكْرَ السَّيِّئِ﴾ وهو الشرك. ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ قال: وهو الشرك).
فهؤلاء المشركون من قريش تعاملوا مع الحق تعامل المفاخرة والتكاثر والاستكبار، لا تعامل الإخبات والتواضع وإقامة العدل وتعظيم هذا الحق وهذا الوحي الكريم، فعندما ذُكر لهم أهل الكتاب وتكذيبهم رسلهم تفاخروا وأخذتهم حمية الجاهلية بأنهم إن جاءهم نبي لَيَنْصُرُنَّهُ وَلَيُوقِّرُنَّهُ، كما قال عز وجل: ﴿وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾. ولكن يوم شعروا أن الحق يمكن أن يلامس مناصبهم ويهز رياساتهم وزعاماتهم فضلوا البقاء على الباطل وما فيه من لذة الخيلاء والاستكبار الزائلة الفانية، فشأنهم في ذلك شأن أكثر الناس الذين يريدون حقًّا لا تكاليف فيه، وإنما سمعة ورياء وظهورٌ ورياسة، فكشفهم الله وعاب عليهم سوء خباياهم ومكرهم.
وقوله: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾. قيل: هذا إشارة إلى قتلهم ببدر. ويحيق بمعنى يحيط، والحَوْق الإحاطة.
روي عن ابن عباس: (أن كعبًا قال له: إني أجد في التوراة. مَنْ حفر لأخيه حُفرة وقع فيها! فقال ابن عباس: فإني أوجِدُك في القرآن ذلك. قال: وأين؟ قال: فاقرأ: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾.
وفي أمثال العرب: (من حَفَر لأخيه جُبًّا وقع فيه مُنكبًّا).