إليه نُوَّابه وجيشه فقاتلوه، والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده فقهره وكَسَرَهُ وقَصَره، حتى لم يبق معه سوى مدينة قُسْطَنْطِينية، فحاصره بها مُدّة طويلة حتى ضاقت عليه، وكانت النصارى تُعَظّمُهُ تعظيمًا زائدًا، ولم يقدِر كسرى على فتح البلاد، ولا أمكنَه ذلك لحَصانتها، لأن نصفها من ناحية البر ونصفَها الآخر من ناحية البحر، فكانت تأتيهم المِيرة والمدَدَ من هنالك. فلما طال الأمر دَبَّرَ قيصرُ مكيدةً، ورأى في نفسه خدِيعة، فطلب من كسرى أن يقلع عن بلاده على مالٍ يُصالحه عليه، ويشترط عليه ما شاء. فأجابه إلى ذلك، وطلب منه أموالًا عظيمة لا يقدر عليها أحدٌ من ملوك الدنيا، من ذهب وجواهرَ وأقمشةٍ وجوارٍ وخُدّام وأصناف كثيرة. فطاوعه قيصر، وأوهمه أن عنده جميعَ ما طلب، واستقلَّ عقله لَمَّا طلب منه ما طلب، ولو اجتمع هو وإيّاه لعَجَزت قُدرتُهما عن جَمْعِ عُشْره، وسأل كسرى أن يُمَكّنه من الخروج إلى بلاد الشام وأقاليم مَمْلَكَتهِ، ليسعى في تحصيل ذلك من ذخائِرِه وحواصله ودفائنه، فأطلق سراحه، فلما عزم قيصر على الخروج من مدينة قسطنطينيّة، جمع أهل مِلَّته وقال: إني خارج في أمر قد أبرمته، في جُند قد عينته من جيشي، فإن رجعت إليكم قبل الحول فأنا ملككم، وإن لم أرجع إليكم قبلها، فأنتم بالخيار، إن شئتم استمررتم على بيعتي، وإن شئتم وليتم عليكم غيري. فأجابوه بأنك ملكنا ما دمت حيًّا، ولو غبتَ عشرةَ أعوام، فلما خرج من القسطنطينية خرَجَ جرِيدَةً في جيش متوسط، هذا وكسرى مُخَيِّمٌ على القسطنطينية ينتظر ليرجع، فركب قيصر من فوره وسار مُسرعًا حتى انتهى إلى بلاد فارس، فعاث في بلادهم قتلًا لرجالها ومَنْ بها من المُقَاتِلَةِ، أَوَّلًا فأوَّلًا، ولم يزل يقتُل حتى انتهى إلى المدائن، وهي كُرسيُّ مملكة كِسْرى، فقتل من بها وأخذ جميع حَوَاصِله وأموالِه، وأسر نساءَه وحريمَه، وحَلَق رأس وَلَده، وَرَكَّبَهُ على حمار وبعث مَعَهُ من الأساوِرَة من قومه في غايةِ الهَوَان والذلّة، وكتب إلى كسرى يقول: هذا ما طلبت فخُذْه. فلما بلغ ذلك كِسرى أخذه من الغمِّ ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، واشتد حَنَقه على البلد، فاشتدَّ في حصارها بِكلِّ ممكن فلم يقدر على ذلك. فلما عَجَز ركب ليأخذ عليه الطريقَ من مَخَاضَةِ جَيحُونَ، التي لا مَسْلَكَ لقيصر إلى القسطنطينية إلا منها، فلما علمَ قيصر بذلك احتالَ بحيلة عظيمة لم يُسبق إليها، وهو أن أَرْصَدَ جُنْدَه وحواصله التي معه عند فَمِ المخاضة، ورَكِبَ في بعض الجيش، وأمر بأحمالٍ من التِّبن والبَعر والرَّوث فَحُمِلَت مَعَه، وسار إلى قريب من يوم في الماء مُصْعِدًا، ثم أمر بإلقاء تلك الأحمال في النهر، فلما مَرّت بِكسْرى ظنَّ هو وجنده أنهم قد خاضوا من هنالك،