فركبوا في طلبهم فَشَغَرت المخاضة عن الفُرس، وقدم قيصرُ فأَمَرَهم بالنهوض في الخَوْضِ، فخاضوا وأسرعوا السير ففاتوا كِسرى وجنودَه، ودخلوا القُسطنطينيَّة. وكان ذلك يومًا مشهودًا عند النصارى، وبقِيَ كسرى وجيوشُه حائرين لا يدرون ماذا يصنعون لم يحصُلُوا على بلاد قيصر، وبلادُهم قد خرّبتها الروم وأخذُوا حَوَاصلهم، وسَبَوا ذَرَاريهم. فكان هذا من غَلب الروم فارِسَ، وكان ذلك بعد تسِع (١) سنين من غَلَبِ الفُرس للروم. وكانت الواقعة الكائنة بين فارسَ والروم حين غَلبت الرومُ بين أذرعاتِ وبُصرى، على ما ذكره ابنُ عباس وعكرمة وغيرهما، وهي طرف بلاد الشام مما يلي بلاد الحجاز. وقال مجاهد: كان ذلك في الجزيرة، وهي أقرب بلادِ الروم من فارسَ، فالله أعلم (٢).
وقوله: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾. أي: من قبل ذلك ومن بعده.
وقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾. فإن الروم أهل كتاب، وهذا قاسم مشترك بينهم وبين المسلمين، في حين أن المجوس الفرس ليسوا بأهل كتاب، ولا إيمان ببعث، فطبيعي أن يفرح المؤمنون بنصر الأقرب لدينهم على عدوهم المشترك.
أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي سعيد قال: [لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت: ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢)﴾ - إلى قوله-. ﴿يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس] (٣).
وقوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾. أي: في انتقامه من أعدائه، وانتصاره منهم. ﴿الرَّحِيمُ﴾ بعباده المؤمنين الموحِّدين.
وقوله: ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾. أي هذا الذي أخبرناك يا محمد عن نصر الروم على فارس بعد هزيمتهم أمامهم هو وعدٌ من الله مقطوع لا بد من وقوعه كما أخبرك الله في التنزيل، فهذه سنة الله في نصر أقرب الطائفتين للحق.
وقوله: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾. أي: بسنن الله وأحكامه وتصريفه بين الأمم.
وقوله: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾.
(٢) نقلًا عن تفسير ابن كثير. سورة الروم. الآيات (١ - ٧).
(٣) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن- أبواب القراءات. انظر صحيح الترمذي (٢٣٣٨).