قال له ادخل الجنة، فدخلها وأفضى إلى رحمة ربه وجنته وكرامته، وهو يقول: ﴿يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾. ولا والله ما عاتب الله قومه بعد أن قتلوه، وما بعث لهم جنودًا يقاتلونهم، بل غضب غضبة لم تبق من القوم أحدًا، فأهلكهم بصيحة فبادوا عن وجه الأرض فلم تبق منهم باقية. فيا حسرة العباد على مصائرها حيث ضيعت أوامر الله وفرطت بالحق واستهزأت بالرسل وتحاكمت للهوى والشهوات، وما اعتبرت بمصائر الأمم الهالكة قبلها التي دمرها الله بكفرها وبغيها، ثم الجميع قادمون يوم القيامة للوقوف في أرض المحشر ومعاينة أهوالها. فإلى تفصيل ذلك من أقوال المفسرين.
قوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾. قال قتادة: (ذُكِرَ لنا أن عيسى بن مريم بعث رجلين من الحواريين إلى أنطاكية مدينة بالروم، فكذبوهما، فأعزهما بثالث، فقالوا: ﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾).
وعن وهب بن منبه قال: (كان بمدينة انطاكية فرعون من الفراعنة يقال له: أبطيحس بن أبطيحس، يعبد الأصنام صاحب شرك، فبعث الله المرسلين وهم ثلاثة: صادق ومصدوق وسلوم، فقدم إليه وإلى أهل مدينته منهم اثنان فكذبوهما، ثم عزز الله بثالث، فلما دعته الرسل ونادته بأمر الله وصدعت بالذي أُمرت به وعابت دينه وما هم عليه قال لهم: ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
قلت: ولا دلالة على كون الرسل الثلاثة رسلًا للمسيح عليه السلام ولا دلالة على كون القرية أنطاكية (١). والتعزز: القوة. كما قال مجاهد: ﴿فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾: قال شدّدنا). وفي رواية قال: (زدنا). وقرأها القراء بالتشديد ﴿فَعَزَّزْنَا﴾، سوى عاصم قرأها بالتخفيف ﴿فَعَزَّزْنَا﴾ أي غلبنا، والأول أظهر وعليه إجماع القراء.
وقوله: ﴿فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾. أي: تأكلون الطعام وتمشون في الأسواق. ﴿وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ﴾: يأمر به أو ينهى عنه ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ﴾ بدعواكم الرسالة. فأجاب الرسل: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَمَا عَلَيْنَا
قلت: فالعبرة بالحدث لا بالمكان، فهي قصة قوم كذبوا الرسل وأسرفوا على أنفسهم ومكروا لإسكات صوت الحق وأهله فدمرهم الله تدميرًا.