٣ - قال داود بن الجراح: (فيمتاز المسلمون من المجرمين إلا أصحاب الأهواء فيكونون مع المجرمين).
وفي لغة العرب: مازَ الشيءَ إذا عزله وفرزه. وميّزه تمييزًا فانماز وامتاز وتميز واستماز كله بمعنى واحد. يقال: امتاز القوم إذا تميّز بعضهم من بعض.
فقد كان المجرمون متميزين في الدنيا في حياة اختاروها متكبرين، ومساكن اصطفوها متعجرفين، جمعوها وحصّلوها بالبغي والظلم والمال الحرام، وملؤوها بالمكر بدين الله وبالفساد والزنا والفواحش وموائد الخمور مستهزئين غارقين، فاليوم يجنون ما اجترحوا ويتميزون -أيضًا- كما فعلوا في دنياهم فَيُفْصَلون عن المؤمنين، فإنهم واردون غير موردهم وسالكون غير سبيلهم.
وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾.
العهد: الوصية، أي ألم أوصكم بعبادتي وبَلَّغَكُم ذلك الرسل، ألا تشركوا بي ولا تَدَعُوا للشيطان نصيبًا في أعمالكم، وقد علمتم حسده لأبيكم وعداوته لذريته، فاتخذوه عدوًا وبادلوه العداوة وإخلاص الإيمان بالله، فهو طريق النجاة في الدنيا والآخرة، فقد أبان عداوته وغروره وحسده.
وقوله: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ﴾ أي أغوى منكم. ﴿جِبِلًّا كَثِيرًا﴾. قال مجاهد: (أي خلقًا كثيرًا). وقال قتادة: (جموعًا كثيرة)، وقال غيره: (أمما كثيرة). والمعنى واحد. وقد قرأها قراء المدينة وعاصم وبعض الكوفيين: ﴿جِبِلًّا﴾ بكسر الجيم والباء. في حين قرأها بعض قراء مكة والكوفة: ﴿جُبُلًا﴾. وقرأها أبو عمرو وبعض قراء البصرة: ﴿جُبْلًا﴾ والقراءتان الأولى والثانية أشهر. والمعنى يدور حول الخلق في كل هذه القراءات، وأميل إلى القراءة الأولى ﴿جِبِلًّا﴾ لأنها توافق القراءة المشهورة في مثيلتها في قوله تعالى: ﴿وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ﴾ فهو من الجِبْل: أي الخلق.
وقوله: ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾. أي: عداوةَ هذا الشيطان اللعين وحزبه لكم.
ثم قال جل ذكره: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾.
أي تقول خزنة جهنم للكافرين توبيخًا لهم: هذه جهنم التي كذبتم بها الرسل، وعشتم في الحياة الدنيا طغاة ظالمين، عاندتم الحق وكفرتم بالله واستكبرتم، فذوقوا