فَنَظْمُ الشعر شيء وارتجازه شيءآخر، فإنك تقرأ في الصحيحين عن البراء، قال: [كان رسول الله - ﷺ - ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبَرَّ بطنُه يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا... ولا تصدّقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأُلى قد بَغَوا علينا... إذا أرادوا فتنة أبينا
يرفع بها صوته] (١).
وفيهما عن أنس قال: [جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق وينقلون التراب وهم يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدًا... على الجهاد ما بقينا أبدًا
يقول النبي - ﷺ - وهو يجيبهم:
اللهم لا عيشَ إلا عيش الآخرة... فاغفر للأنصار والمهاجرة] (٢)
وخلاصة القول: إن ما وقع من النبي - ﷺ - اتفاقًا من غير قصد لوزن الشعر لا ينافي كونه عليه الصلاة والسلام ما علم شعرًا وما ينبغي له، بل علّمه الله الذكر والقرآن فرفعه به وملأ قلبه وحياته بروعته، فلم يبق في قلبه مكانًا لغيره. وبنحو هذا يروي ابن القاسم عن مالك أنه سئلِ عن إنشاد الشعر فقال: (لا تكثرن منه فمن عيبه أن الله يقول: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾. قال: ولقد بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: أن اجمع الشعراء قبلك، وسلهم عن الشعر، وهل بقي معهم معرفة، وأحضر لبيدًا ذلك، قال: فجمعهم فسألهم فقالوا: إنا لنعرفه ونقوله. وسأل لبيدًا فقال: ما قلت بيت شعر منذ سمعت الله عز وجل يقول: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾) ذكره القرطبي.
وقوله: ﴿وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾. أي ذلك من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، لئلا يظن أنه قوي على القرآن بما في طبعه من القوة على الشعر. وقيل: ما ينبغي له أي ما يتسهل له قول الشعر لا الإنشاد.
(٢) حديث صحيح. أخرجه البخاري (٤٠٩٩)، كتاب المغازي. وانظر كتابي: السيرة النبوية (٨٩١). ورواه مسلم في الصحيح (١٨٠٥) - كتاب الجهاد- باب غزوة الأحزاب وهي الخندق.