الوجه على قوله: ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ حسنًا وعلى ﴿فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ تمامًا. قاله ابن الأنباري وحكى معناه الثعلبي عن الفراء كما ذكر القرطبي.
قلت: وغاية القول، إنها أجوبة للقسم كلها محتملة، ولكن خبأها الله ليكون ذلك أبلغ في الخوف منه من هذا القسم العظيم الذي أقسم به، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ فيه أوجه من التفسير:
الوجه الأول: أي لم ينتفع به الكفار لأنهم في كبر وعناد. قال الحافظ ابن كثير: (إن هذا القرآن لذكرى لمن يتذكر وعبرة لمن يعتبر، وإنما لم ينتفع به الكافرون لأنهم ﴿فِي عِزَّةٍ﴾: في استكبار عنه وحمية ﴿وَشِقَاقٍ﴾: مخالفة له ومعاندة ومفارقة). وهو تفسير جميل مناسب. قال النسفي: (﴿وَشِقَاقٍ﴾ خلاف لله ولرسوله، والتنكير في عزة وشقاق للدلالة على شدتهما وتفاقمهما).
الوجه الثاني: أي الذين كفروا في عداوة ومشاقة لمحمد. واختاره ابن جرير وقال: (بل الذين كفروا بالله من مشركي قريش في حمية ومشاقة وفراق لمحمد وعداوة، وما بهم أن لا يكونوا أهل علم بأنه ليس بساحر ولا كذّاب. قال: ما الأمر كما يقول هؤلاء الكافرون بل هم في عزة وشقاق). وهو تفسير آخر لطيف مناسب.
الوجه الثالث: أي الذين كفروا في استعلاء عن قبول الحق. ذكره القرطبي حيث قال: (أي في تكبر وامتناع من قبول الحق، كما قال جل وعز: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ والعزة عند العرب الغلبة والقَهْر). وقال القاسمي: (﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ﴾ أي كبر ﴿وَشِقَاقٍ﴾ أي عداوة للحق والإذعان له. إضراب عمّا قبله. كأنه قيل: لا ريب فيه قطعًا. وليس عدم إيمان الكفرة به لشائبة ريبٍ ممّا فيه. بل هم في حمية جاهلية وشقاق بعيد لله ولرسوله. ولذلك لا يذعنون له).
قلت: ومنه يفهم قول مجاهد: (﴿فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ قال: معازِّين)، وقول قتادة: (﴿فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ قال: أي في حمية وفراق). فقد اعترى قلوبهم من الأمراض الفتاكة والأوبال الضارة والعيوب المدمرة: كحب الرياسة والعلو والكلمة النافذة والكبر وظلم الناس ما سيطر على قلوبهم وعمّ في حركة فكرهم وأفئدتهم وعشعش في نفوسهم، فلمّا لم يدافعوها ولم ينتفعوا بحقائق الحياة والموت والكون لمعاكستها وعلاجها، بقيت أمامهم فرصة ثمينة للاستفادة منها وهي نزول الوحي أمام أعينهم وسماع القرآن وهو يخاطب قلوبهم، ولكنهم أمام هذا النداء العظيم الذي أقرّوا به من داخلهم،