وقيل فلما قدم (لا) وأخر (حين) اقتضى ذلك الواو. قال القرطبي رحمه الله: (فحين ظرف لقوله ﴿فَنَادَوْا﴾ والمناص بمعنى التأخر والفرار والخلاص، أي نادوا لطلب الخلاص في وقت لا يكون لهم فيه خلاص). وقال القاسمي: (أي وليس الحين حين فِرار ومهرب ونجاة). قال النسفي: (﴿فَنَادَوْا﴾ فدعوا واستغاثوا حين رأوا العذاب ﴿وَلَاتَ﴾ هي لا المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على ربّ وثم للتوكيد. قال: وقوله: ﴿حِينَ مَنَاصٍ﴾ منجى منصوب بها كأنك قلت ولا حين مناص لهم). أي التقدير: وليس الحين حين مناص. قال ابن جرير: (وقد حقت كلمة العذاب عليهم وتابوا حين لا تنفعهم التوبة واستقالوا في غير وقت الإقالة).
قلت: وخلاصة المعنى أن القوم استرسلوا في غيِّهم ومضوا في عنادهم وتكذيبهم، كل أمة منهم تكذب رسولها، فلما عاينوا العذاب والدمار الذي حُذّروا من وقوعه بهم، هُرعوا مسرعين إلى التوبة والاستغفار والتصديق فنادوا مستنجدين في ساعة متأخرة ليس فيها خلاص وفي وقت لا نزو فيه ولا فرار ولا مغاث.
و(النَّوْصُ) في لغة العرب التأخر، و (المناص) الملجأ والمفَرُّ، وهو مفعل من النَّوْص.
وقوله تعالى: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾.
أي: فعجبوا أن لم ياتهم ملك ينذرهم بل بشر منهم. فَعن قتادة: (﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾، يعني محمدًا - ﷺ -، فقال الكافرون هذا ساحر كذّاب). وفي صلة الآيات بما قبلها وما بعدها وجوه من البلاغة:
الوجه الأول: أن يكون قوله: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ اعتراضيًا ويكون الكلام بما قبله متصلًا، أي التقدير: بل الذين كفروا في عزة وشقاق وعجبوا.
الوجه الثاني: أن يكون معنى ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ﴾ هو (وعجبوا من أن جاءهم) و (أنْ) في محل نصب.
الوجه الثالث: أن يكون الكلام مستأنفًا بهذه الآية، أي: ومن جهلهم أظهروا التعجب واستبعدوا أن يكون النبي من البشر منذرًا لهم منهم.
وكلها وجوه متقاربة مفادها أن الكفار استبعدوا بخفة عقولهم وقلوبهم أن يرسل الله فيهم رسولًا منهم يعرفون نسبه وصدقه، فقد تعلقت قلوبهم لخفتها بالخوارق والخيالات، لذلك اتهموه بالسحر وبأنه يجيء بالكلام المموّه الذي يخدع به الناس


الصفحة التالية
Icon