فعن قتادة: (﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ﴾ قال: أُعطي قوة في العبادة وفقهًا في الإسلام). وقال ابن زيد: (في قوله: ﴿دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ﴾ قال: ذا القوة في عبادة الله. الأيد: القوة، وقرأ ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ قال: بقوة).
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: [أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحبُّ الصيام إلى الله صيام داود، وكان ينام نِصفَ الليل ويقوم ثلثَهُ وينام سُدُسَهُ ويصوم يومًا ويفطر يومًا]. واللفظ للبخاري (١).
فقد كان داود عليه الصلاة والسلام مثلًا أعلى في القوة في العبادة، وكان متميزًا في أشد أنواعها وهي الصلاة في الليل والدعاء، والصيام في النهار، فأورثه الله بها قوة في الجهاد وصبرًا عند الشدائد واللقاء، وجمع له معها قوةً في العلم والفهم والحكم وفصل القضاء، فكان له بذلك شرف عند الله ومكانة عالية أظهرها سبحانه بقوله ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا﴾ إبرازًا لشرفه بهذه الإضافة.
وقوله: ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾. قال مجاهد: (رجاع عن الذنوب). وقال قتادة: (أي كان مطيعًا لله كثير الصلاة). وقال الضحاك: (أي تواب). وقيل: أنه كلما ذكر ذنبه أو خطر على باله استغفر منه فكان رجّاعًا إلى الله في جميع شؤونه وأحواله، حرفي أن يقتدى به.
وآب في لغة العرب: رجع. قال ابن جرير: (إن داود رجّاع لما يكرهه الله إلى ما يرضيه أواب).
قلت: وهذه الصفة من صفات أعلام النبوة. فقد امتدح الله بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾. وامتدح بها سليمان عليه الصلاة والسلام بقوله: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾. ووعد المؤمنين الموصوفين بهذه الصفة مغفرة وخيرًا فقال جل ثناؤه: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾. وامْتُدِحَ إمام الأوابين بها، محمد صلوات الله وسلامه عليه، كما روى النسائي وابن حبان بسند صحيح عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: [إني لأتوبُ إلى الله تعالى في اليوم سبعين مرة] (٢). وكما روى الترمذي عن أبي هريرة عنه صلوات الله
(٢) حديث صحيح. انظر صحيح ابن حبان (٢٤٥٦)، وصحيح الجامع الصغير (٢٤٧٣).