راغبًا راهبًا من جبروته سائلًا إياه ملكًا وقوة وسلطانًا لا يستخفه شيطان ولا يُسْلَبهُ ولا يكون مثله لأحد بعده، طموحًا منه وأملًا باللهِ، فأجابه سبحانه فسخر له الرياح تجري بأمره والشياطين تعمل بإشارته، وأما مردتهم فمقيدون في الأغلال تحت سيطرته، فخذ يا سليمان هذا الملك من ربك فاعط ما شئت وامنع ما شئت واحبس من شئت، واحكم بمنهج الوحي في الأرض تقيم العدل وتعظم الحق وإن لك في الآخرة أعظم مما أعطيناك في الدنيا من الثواب والقرب والنعيم، فضلُ الله وكرمه على من حَكَّم في الأرض شرعه ومنهاجه. وتفصيل ذلك:
فقوله: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا﴾ يشبه قوله في سورة الذاريات: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. وهوِ كقِوله في سورة الأنبياء: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾، وكقوله في سورة الدخان: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (٣٨) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
فالله سبحانه ما فطر الخلائق هزلًا ولعبًا وما خلق السماوات والأرض لهوًا وعبثًا بل لأمر جلل عظيم يدل على قدرته وجبروته سبحانه فيفرد بالتعظيم إذ لا أحد يستحق كمال التعظيم سواه جل ثناؤه. ونقل القاسمي عن الزمخشري قوله: (ومن جحد الخالق فقد جحد الحكمة من أصلها. ومن جحد الحكمة في خلق العالم فقد سفه الخالق، وظهر بذلك أنه لا يعرفه ولا يقدره حق قدره، فكان إقراره بكونه خالقًا، كَلَا إقرار).
فمن أفرده بالتعظيم، فقد فهم غاية الخلق ومعنى الأمن في الدنيا والآخرة، وسيرضيه ربّه بذلك في جنانه يوم القيامة، ومن عظّم شهواته ومضى طائعًا لها فسيتخلى عنه ربّه في الآخرة، أحوج ما يحتاج إلى رحمته والأنس به وبقدرته، وكل ذلك في علم الله سبحانه وتحت حكمته وعدله.
أخرج ابن عساكر بسند صحيح عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-صلى الله عليه وسلم- قال: [خلق الله آدمَ، فضربَ بسند كتِفَهُ اليُمنى، فأخرج ذُرِّية بيضاء كأنَّهم اللَّبنُ، ثم ضرب كتفهُ اليُسرى، فخرج ذريَّةٌ سوداءُ كأنهم الحُمَمُ، قال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي] (١).

(١) حديث صحيح. رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (ج ١٥/ ١٣٦/ ١)، ورواه أحمد وابنه في زوائد "المسند" (٦/ ٤٤١)، وإسناده صحيح.


الصفحة التالية
Icon