وأما قوله: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ ففيه قراءتان مشهورتان:
القراءة الأولى: وهي قراءة قراء المدينة، وبها قرأ نافع وشيبة وهي بإضافة خالصة إلى ذكرى الدار، أي "بخالصةِ ذكرى الدار"، أي أخلصوا بخالصة الذكرى وهي خالصة عقبى الدار وأفضل ما في الآخرة وأجمل الثناء في الدنيا.
القراءة الثانية: وهي قراءة قراء العراق، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وهي بالتنوين، أي ﴿بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾. فالتقدير: إنا أخلصناهم بأن يذكروا الدار الآخرة ويتأهبوا لها، فكأن الله قد اختصهم بهذه الذكرى الرفيعة من غيرهم وكانوا أهلًا لها رغبوا فيها، ورغّبوا الناس بها، وأخلصوا في أعمالهم لاستقبالها.
وقد جاء في تأويلها بما يتوافق مع إحدى القراءتين السابقتين أكثر من تأويل:
التأويل الأول: أي كانوا يؤكرون الناس بالآخرة ويدعونهم لطاعة الله.
فعن قتادة: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ قال: بهذه أخلصهم الله، كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله). وقال ابن زيد: (معنى أخلصناهم أي بذكر الآخرة، أي يذكرون الآخرة ويرغبون فيها ويزهدون في الدنيا). وقال النسفي: (وقيل خالصة بمعنى خلوص فهي مضافة إلى الفاعل، أي بأن خلصت لهم ذكرى الدار على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بهمٍّ آخر، إنما همّهم ذكرى الدار لا غير).
التأويل الثاني: قيل أخلصهم بعمل الآخرة وذِكْرِهم لها فقد شغلتهم وأهمتهم دون ما سواها. فعن مجاهد قال: (بذكر الآخرة فليس لَهم همٌّ غيرها). وقال السُّدي: (بذكرهم الدار الآخرة وعملهم للآخرة).
التأويل الثالث: أي أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة.
فعن ابن زيد قال: (بأفضل ما في الآخرة أخلصناهم به وأعطيناهم إياه. قال: والدار الجنة، وقرأ: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ﴾ قال الجنة وقرأ ﴿وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾ قال: هذا كله الجنة، وقال: أخلصناهم بخير الآخرة). وقال ابن كثير في تفسيره: (أي جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم هَمٌّ غيرها ويذكّرون الناس بالعمل لها فكان جزاؤهم الجنة).
التأويل الرابع: قيل بل المراد خالصة عقبى الدار. فعن سعيد بن جبير: (﴿بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ قال عقبى: الدار).