التأويل الخامس: قيل بل المعنى بخالصة أهل الدار.
قال مجاهد: (هم أهل الدار، وذو الدار، كقولك ذو الكلاع وذو يَزَن). وقال القاسمي: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ﴾ أي صفيناهم عن شوب صفات النفوس وكدورة حظوظها وجعلناهم لنا خالصين بالمحبة الحقيقية ﴿بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ أي الباقية والمقر الأصليّ، أي استخلصناهم لوجهنا بسبب تذكرهم لعالم القدس، وإعراضهم عن معدن الرجس، مستشرفين لأنوارنا، لا التفات لهم إلى الدنيا وظلماتها أصلًا).
التأويل السادس: قيل ذكرى الدار: الثناء الجميل في الدنيا.
قال النسفي: (وهذا شيء قد أخلصهم به فليس يذكر غيرهم في الدنيا بمثل ما يذكرون به، يقويه قوله: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾.
قلت: وكلها اختلافات تنوع لا تضاد، فإن الله قد أخبر بذلك عن بعض من اصطفاه، بانهم قد ملأ ذكر الآخرة والخوف منها عليهم قلوبهم وحياتهم وحركاتهم وسكناتهم حتى صاروا يقومون ويقعدون كأنها أمامهم رأي عين، فقد شغلتهم وَأَهَمَّتْهم، وانعَكس ذلك على جوارحهم وقلوبهم وأقوالهم وأعمالهم ودعوتهم، فأفرد الله لهم بذلك ثناء حسنًا في الدنيا ومقامًا عطرًا في الآخرة، كما أفرد لهم بذلك سبحانه مقامًا رفيعًا، واختصاصًا مميزًا، صاروا ينعتون به في السماء والأرض إلى يوم القيامة، بأنهم أهل الآخرة، وأهل ذكر المعاد والحساب، في وقت يشغل الناس فيه بذكر الدنيا والشهوات والدرهم والدينار، وليتأسى الناس بهم من بعدهم، وليعلموا أن تعظيم حرمات الله وأوامره وهديه وشرعه جزاؤه عظيم في الدنيا وفي الآخرة. وفي صحيح السنة ما يفيد العلم بهذه المقامات العالية:
فقد أخرج ابن ماجة في سننه بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: سمعت نبيكم -صلى الله عليه وسلم- يقول: [من جعلَ الهمومَ همًّا واحدًا، همَّ المعاد، كفاهُ الله سائرَ همومه، ومن تشعبت به الهمومُ من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هَلك] (١).
ورواه الحاكم من طريق ابن عمر.
وفي جامعِ الترمذي بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: [من كانت الاخرة همَّهُ، جعل الله غناهُ في قلبِه، وجمع له شملَهُ، وأتته الدنيا وهي

(١) حديث حسن. أخرجه ابن ماجة في السنن (٤١٠٦) -كتاب الزهد- باب الهم بالدنيا. وانظر صحيح سنن ابن ماجة -حديث رقم- (٣٣١٤).


الصفحة التالية
Icon