قَلِيلًا}. وفي سورة النساء: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾. فالمراد إذا عدلته ونفخت فيه الروح فأحييته بها وجعلته حساسًا متنفسًا.
كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: [احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته، أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم! قال آدم: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، وأنزل عليكَ التوراة، أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبلَ أن يخلقني؟ ! فحج آدم موسى] (١).
وقوله سبحانه: ﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ هو من وقع يقع أي اسقطوا إلى الأرض ساجدين متواضعين تعظيمًا وتكريمًا. قال القرطبي: (وهذا سجود تحية لا سجود عبادة. قال: أي امتثلوا الأمر واسجدوا له خضوعًا له وتعظيمًا لله بتعظيمه). فسجد الملائكة كلهم، مَنْ في السماوات ومن في الأرض أجمعون، إلا إبليس ولم يكن منهم جِنْسًا، بل كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان يحتاج إليه، فأبى السجود وخاصم ربّه بدعوى العجب والكبر والغرور أنه خير منه، وأنّ النار تأكل الطين وتحرقه، ولجأ إلى الفلسفة والرأي ناسيًا متجاهلًا الأمر والوحي، فأخزاه الله وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته وحضرة قدسه، وأنزله مذمومًا مدحورًا إلى الأرض، فسأل ربه النظرة إلى يوم المعاد، فأنظره وهو الحليم سبحانه لا يعجل على من عصاه، وأمهله وسماه إبليس خزيًا له وعارًا. قال ابن كثير: (وسماه إبليس لأنه قد أبلس من الرحمة).
فلما اطمأن عدو الله وأمن من الهلاك إلى يوم البعث والحساب، تمرد وطغى وسعى في الأرض بالفساد والوسوسة ليحمل ابن آدم في لحظات ضعف إيمانه على الفاحشة وقول الزور والكذب وسوء الظن بالله وسفك الدم الحرام، وأكل السحت والمال الحرام، وغير ذلك من صغار الذنب وكباره.
ولهذا قال سبحانه: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾. قال ابن جرير: (وكان بتعظمه ذلك وتكبره على ربه، ومعصيته أمره ممن كفر في علم الله السابق، فجحد

(١) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (٤٧٣٨)، (٦٦١٤). وأخرجه مسلم في الصحيح (٢٦٣٢)، وأبو داود في السنن (٧٠١). ورواه أحمد (٢/ ٢٤٨)، وابن ماجة (٨٠)، وابن حبان (٦١٨٠) من طرق، وللحديث روايات كثيرة.


الصفحة التالية
Icon