وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾. قال القرطبي: (تعريف بإصراره على الكفر، لأن اللعن منقطع حينئذ، ثم بدخوله النار يظهر تحقيق اللعن). قلت: فلقد علم الله وكتب في لوحه المحفوظ كتابة علم أن إبليس سيظل كافرًا كما علم وكتب أن أبا لهب سيخرج من الدنيا كافرًا متجبرًا، وكلاهما موعودون جهنم لهم فيها دار الخزي، فالله لم يجبرهم على الكبر وإنما اختاروه لأنفسهم.
وقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾.
قال ابن جرير: (قال إبليس لربه: رب فإذا لعنتني وأخرجتني من جنتك فأخرني في الأجل ولا تهلكني إلى يوم تبعث خلقك من قبورهم. وبقوله: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ قال: فبعزتك: أي بقدرتك وسلطانك وقهرك ما دونك من خلقك، لأضلن بني آدم أجمعين إلا من أخلصته منهم لعبادتك وَعَصَمْتَهُ من إضلالي، فلم تجعل لي عليه سبيلًا، فإني لا أقدر على إضلاله وإغوائه).
وقال القاسمي: (﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ وهم الذين أخلصهم الله لنفسه من أهل العناية عن ثوب الكدورات النفسية وحجب الأنانية، وصفّى فطرتهم عن خلط ظلمة النشأة البشرية).
قلت: فحلف الخبيث بعزة الله مع أنه قد أرْداه الكبر وكان به من الكافرين، فكيف بكثير من المسلمين اليوم يحلفون بغير الله سبحانه، من ولد وبصر وشارب وحياة وغير ذلك من الفانيات وينسون أن يحلفوا بالله ذي الصفات الباقيات الدائمات.
فعن قتادة: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ قال: عَلِمَ عدوّ الله أنه ليست له عزّة). فحلف بعزة الله أن يضل بني آدم بتزيين الشهوات وإدخال الشبه عليهم فقال ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ﴾ أي لأستدعينهم إلى المعاصي وقد علم أخزاه الله أنه لا يصل إلا إلى الوسوسة والتحريش، ولا سلطان له إلا على فاسد الطبع مثله أو مَنْ به ضعف في إيمانه ويقينه.
فقد روى مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: [إن الشيطان قد أيسَ أن يَعْبُدَهُ المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم] (١). وفي غير مسلم بدون قوله (في جزيرة

(١) حديث صحيح. أخرجه مسلم (٢٨١٢)، والترمذي (١٩٣٨)، وأحمد (٣/ ٣١٣)، وغيرهم.


الصفحة التالية
Icon