لا تقاس ولا تقارن بعذاب النار وأحقاب الجحيم. لكن الخاشع في جوف الليل الساجد والقائم الخائف من أهوال يوم القيامةِ ومفاجآتها، الراجي رحمة ربه عند الاحتضار وفي لحظات الخروج من هذه الدنيا ومفاتنها، ليس كمن أشركَ وتكبر وتبختر، ثم خرج ولسانهُ عند الاحتضار يتعثر، فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى، وإلى مفاجآت الموقف ومآسي جهنم سيُولّى، ولا يتذكر هذا إلا أصحاب العلم والعقل لا مَنْ بالشهواتِ وسكرها وانحطاطها يتدلى. فهاجِروا عباد الله إلى أرض الإسلام واتركوا ديار الكفر واصبروا على الجهاد في سبيل الله حتى تظفروا بإحدى الحسنيين النصر والتمكين أو الشهادة والأجر العظيم، فإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
وتفصيل ذلك:
قوله: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾. هو مرفوع على أنه خبر المبتدأ المؤخر ﴿مِنَ اللَّهِ﴾. أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذا، (أي: هذا تنزيل). وجوّز الفراء النصب أي ﴿تَنْزِيلُ﴾ على أنه مفعول به أو على أنه منصوب على الإغراء كقوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ﴾، أي الزموا كتاب الله. والرفع أشهر عن القراء. والكتاب هو القرآن. قال القرطبي: (سمي بذلكَ لأنهُ مكتوب).
وقوله: ﴿مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾. قال ابن جرير: (الذي نزلناهُ عليك يا محمد من الله العزيز في انتقامهِ من أعدائه، الحكيم في تدبيره خلقه، لا من غيره، فلا تكونن في شك من ذلك). أي هذا القرآن من الله العزيز المنيع الجناب الحكيم في أقواله وأفعالهِ وشرعه وقدره، كما قال جل ثناؤهُ في سورة الشعراء: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾. أي أنزلناه بالحق وبالحق نزل، وبالصدق والجد فما فيهِ باطل ولا هزل، لتقيمَ به بين الناس العدل، وتحكم بهذا الوحي حياة البشر، فلا حياةَ ولا أمن ولا سعادة في الإعراض عنه، فأفْرِدِ الله بالعبادةِ والتوسل والطاعة، فلا أحد غيره يملك الضرّ والنفع فإليهِ التذلل والضراعة. فَعن قتادة: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ قال: (يعني القرآن). وعن السدي: (قوله: ﴿مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ قال: فالتوحيد، والدين منصوب بوقوع مخلصًا عليه). فقوله: ﴿مُخْلِصًا﴾ حال، أي موحدًا لا تشرك بهِ سبحانه. قال القاسمي: (أي عن شوب الشرك والرياء، بإمحاض التوحيد وتصفيةِ السر).
قال ابن العربي رحمه الله: (هذه الآية دليل على وجوب النية في كل عمل).