بعد الموت فقد كانوا منكرين جاحدين له. قال الحافظ ابن كثير: (وما كان الشفعاءُ والوسطاء في نظر المشركين إلا مخلوقين لله تعالى، مربوبين له، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجّوا في جاهليتهم: لبّيكَ لا شريكَ لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك). قلت: فهذه الشبهة قديمة اعتدّ بها المشركون أمام رسلهم، وهي واهية باطلة لأنهم قاسوا الله سبحانه وملائكته على ملوك الأرض وأمرائهم الذين يتوسطون ويشفعون لهم عند ملوكهم، فتعالى اللهُ عما يقولون علوًا كبيرًا، فقد قال سبحانه في سورة الشورى يصفُ نفسه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾. وقال في سورة النحل: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾. وقال فيها أيضًا: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. فأمر سبحانه بإفرادهِ في العبادةِ فهو العظيمُ لا واسطة لديه إلا الإنابة إليهِ والعملُ الصالح، وهو الذي يحبه من ملوك الأرض ومن عباده جميعًا، وبه ينبغي أن يقرّب الحكام والخلفاء الناس أو يبعدوهم، قال جل ثناؤه في سورة النحل: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾. قال ابن القيم رحمه الله: (الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حدّه: من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قومٍ: من يتحاكمون إليهِ غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم، إذا تَأَمَّلْتها وتأمّلت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعة رسول الله - ﷺ - إلى طاعة الطاغوت ومتابعته).
وقد أخرج الإمام البخاري في تفسير سورة نوح عن ابن عباس رضي اللهُ عَنْهُما في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ قال: [هي أسماء رجال صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا أوحى الشيطانُ إلى قومهم: أن انْصِبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسمّوها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبْدَ. حتى إذا هلكَ أُولئكَ ونُسِيَ العلم عُبِدَتْ] (١).
وقال ابن جرير بسنده عن محمد بن قيس: (أن يغوث ويعوق ونسرًا كانوا قومًا صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم