ثم مضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقود أصحابه حتى بلغ بهم عُسْفان على ثمانين كيلًا من مكة، فأتاه عينه الخزاعي بخبر قريش وجمعها المجموع لصدّه ومن معه عن دخول مكة، وأخبره بأن خالد بن الوليد قد خرج بخيل قريش إلى كراع الغميم التي تبعد أربعًا وستين كيلًا عن مكة لاستطلاع الموقف وليكونوا طليعة القتال والمباغتة.
فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث المسور السابق قال: [وسارَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه عَيْنُهُ قال: إن قريشًا جمعوًا لك جموعًا وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت ومانعوك. فقال: أشيروا أيها النّاسُ عليَّ! أترون أن أميل إلى عيالهم وذراريِّ هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت فإن يأتونا كان اللَّه عز وجل قد قطع عينًا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين. قال أبو بكر: يا رسول اللَّه خرجت عامدًا لهذا البيت لا تُريد قَتْلَ أحد ولا حَرْبَ أحد فتوجّه له، فمن صدنا عنه قاتلناه. قال: امضوا على اسم اللَّه] (١).
ثم صلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأصحابه بعسفان صلاة الخوف وذلك عندما علم بقرب خيل خالد والمشركين، وهي أول صلاة خوف صلاها عليه الصلاة والسلام، فكان بدء تشريعها في عُسفان من أرض الحديبية. وقد باغت الوحي بهذا التشريع العظيم فرسان خالد ومن معه من المشركين، الذين وقفوا مشدوهين لصلاة يحمل الرجال فيها السلاح ويكونون فريقين: فريق في السجود وفريق يتابع الحراسة.
ثم تحرك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بسرعة فسلك طريقًا وعرة عبر ثنية المرار وهي مهبط الحديبية، وأخذ يشد عزائم أصحابه ليصعدوها مسرعين. وقد أراد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بهذه الحركة المفاجئة أن يغير طريقه لئلا يصطدم مع خالد بن الوليد وخيالة المشركين.
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا: [خرج رسول اللَّه في زمنَ الحديبية، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: إن خالدَ بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين، فواللَّه ما شعر بهم خالد، حتى إذا هُمْ بقترة الجيمض فانطلق يركض نذيرًا لقريش...] (٢).
فما إنْ شعر خالد بمباغتة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وبحركة الالتفاف السريعة التي قام بها، إلا طار

(١) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه -حديث رقم- (٤١٧٩) - كتاب المغازي.
(٢) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (٢٧٣١)، (٢٧٣٢) - كتاب الشروط.


الصفحة التالية
Icon