ويبدو أن هذه الآية من سورة الفتح قد نزلت في هذه الحوادث جميعها، ومن ثمَّ فلا مانع من تعدد أسبابها، كما لم يكن عند طغاة مكة مانع من تكرار الغدر مرة تلو الأخرى، وفي كل مرة كان اللَّه يذيقهم الذل والخزي والصغار.
الحديث الرابع: أخرج البخاري في صحيحه عن المسور ومروان قالا: [.. ثم رجع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة، فجاءه أبو بصير رجلٌ من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهدَ الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين فخرجا به، حتى بلغا ذا الحُليفة فنزلوا يأكلون من تَمْرٍ لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: واللَّه إني لأرى سَيْفَكَ هذا يا فلانُ جيدًا، فاسْتَلَّه الآخر فقال: أجل واللَّه إنه لجيّد، لقد جَرَّبْتُ به ثم جَرَّبْتُ. فقال أبو بصير: أرني أنظرْ إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى بَرَدَ، وَفَرَّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعْدو، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حين رآه: لقد رأى هذا ذُعْرًا، فلما انتهى إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: قُتِل واللَّه صاحبي وإني لمقتول. فجاء أبو بصير، فقال: يا نبي اللَّه قد واللَّه أوفى اللَّه ذِمَّتَكَ، قد رددتني إليهم ثم أنجاني اللَّه منهم. قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَيْلُ أمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أحد. فلما سمع ذلك عرف أنه سيَرُدُّه إليهم، فخرج حتى أتى سِيفَ البحر. قال: ويَنْفَلِتُ منهم أبو جندل بنُ سُهَيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجلٌ قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فواللَّه ما يسمعون بِعيرٍ خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريشٌ إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تُناشِدُه باللَّه والرَّحم لَمَّا أَرْسَلَ، فَمَنْ أتاه فهو آمن، فأرسل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إليهم، فأنزل اللَّه تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ حتى بلغ ﴿الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ وكانت حميّتُهم أنهم لم يقروا أنه نبيّ اللَّه ولم يقروا بـ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ وحالوا بَيْنَهم وبين البيت] (١).
٢٥ - ٢٦. قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ