وأخرج أحمد وابن حبان بسند صحيح عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: [إن اللَّه تعالى خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضَلَّ] (١).
فالنور: هو نور الوحي الذي به تحيا القلوب، نور النبوة والرسالات. والظلمة: هي ظلمة الطباع والجهل والأهواء التي تميت القلوب، ظلمة الخضوع للغرائز والشهوات.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾. أي: ابتدع إنشاء الزوجين وجعل كلًا منهما زوجًا للآخر.
وقوله تعالى: ﴿مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾. أي إذا تدفق في الرحم. يقال: مَنى وأَمْنى. قال عطاء: (مَنى الرجل وأمْنى من المَنِيّ، وسميت مِنًى بهذا الإسم لما يُمنى فيها من الدماء أي يُراق). وقال أبو عبيدة: (تمنى: تُقَدَّر). والراجح الأول. قال القرطبي: (والنطفة الماء القليل، مشتق من نَطَفَ الماءُ إذا قَطَرَ. ﴿تُمْنَى﴾ تُصَبُّ في الرحم وتراق).
وفي التنزيل: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (٣٧) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣٩) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: ٣٦ - ٤٠].
وفي سنن ابن ماجة بسند حسن عن بسر بن جحَّاش القُرَشي، قال: بزق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في كفه. ثم وضع أصبُعَه السبابة وقال: [يقول اللَّه عز وجل: أنّى تُعْجِزُني، ابنَ آدمَ! وقَدْ خلقتُكَ مِنْ مِثْل هذه. فإذا بَلَغَتْ نفسُكَ هذه (وأشار إلى حَلْقِه) قُلْتَ: أتَصَدَّقُ. وأنّى أوانُ الصَّدقة؟ ] (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى﴾. أي إعادة الخلق في نشاة أخرى، فإنه - تعالى- كما خلقَ البداءة فهو قادر على الإعادة.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾. قال مجاهد: (﴿أَغْنَى﴾: موَّل، ﴿وَأَقْنَى﴾: أخْدَم). وقال ابن عباس: (﴿أَغْنَى﴾ أعطى، ﴿وَأَقْنَى﴾: أرضى). والعرب تقول: "أقناه" اللَّه أي أعطاه ما يُقْتَنى من "القِنْية" والنَّشَب. "وأقناه" أيضًا: رضّاه. والقِنى: الرضا. ويقال: "أغناه اللَّه وأقناه" أي أعطاه ما يَسْكُنْ إليه.

(١) حديث صحيح. أخرجه أحمد (٢/ ١٧٦)، (٢/ ١٩٧)، وابن حبان (١٨١٢)، والحاكم (١/ ٣٠).
(٢) حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (٢٧٠٧) - كتاب الوصايا. انظر صحيح سنن ابن ماجة (٢١٨٨).


الصفحة التالية
Icon