والمقصود في الآية: أيّ شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل اللَّه، وهذا الذي بين أيديكم من المال وغيره لا يدوم لكم ولا يبقى، بل يرثه اللَّه وكل شيء في السماوات والأرض، فما أجدر والحال هذه أن ينفق العبد في حياته، ويتخذه ذخرًا يجده في صحيفته بعد مماته.
وقوله: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾. قال مجاهد: (آمن فأنفق، يقول: من هاجر ليس كمن لم يهاجر).
وعن قتادة: (﴿مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ﴾ قال: فتح مكة). وقال عامر الشعبي: (فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية، يقول تعالى ذكره: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾ الآية). والجمهور على أن المراد بالفتح فتح مكة.
وقوله: ﴿أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾. قال قتادة: (كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك). وفي الكلام حذف والتقدير: لا يستوي من أنفق قبل الفتح وقاتل مع من أنفق من بعد الفتح وقاتل. قال القرطبي: (وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لأن حاجة الناس كانت أكثر لضعف الإسلام، وفِعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشقّ، والأجر على قدر النَّصب، واللَّه أعلم).
وقال الإمام مالك: (ينبغي أن يُقَدَّمَ أهل الفضل والعزم، وقد قال اللَّه تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾).
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أنس قال: [كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلامٌ، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتُمونا بها؟ فبلغَنا أنّ ذلك ذُكر للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثلَ أحُدٍ -أو: مثلَ الجبالِ- ذهبًا، ما بلغتم أعمالهم] (١).
وهذه المشاجرة كانت أثناء غزو بني جَذيمة بعد فتح مكة، وذلك في شهر شوال سنة ٨ هـ حين بعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سرية يقودها خالد بن الوليد فيها ثلاث مئة وخمسون رجلًا من المهاجرين والأنصار إلى بني جذيمة في يلملم جنوب مكة، يدعوهم إلى الإسلام، فلما وصل أرضهم ودعاهم إلى الدين الحق جعلوا يقولون صبأنا ويعنون

(١) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (٣/ ٢٦٦)، وإسناده على شرط البخاري.


الصفحة التالية
Icon