الأمد قست قلوبهم، فاخترعوا كتابًا من عند أنفسهم استحلَّته أنفسهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، حتى نبذوا كتاب اللَّه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون).
قال النسفي: (ويجوز أن يكون نهيًا لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وُبِّخُوا، وذلك أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا للَّه ورقت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره).
وقوله: ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾. أي: وكثير من هؤلاء الذين أوتوا الكتاب من قبل أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- خارجون عن دينهم، نابذون لما في كتابهم.
قلت: وفي الآية تحذير لهذه الأمة من التشبه بالذين حملوا الكتاب من قبلهم حملًا هزيلًا، فلما طال عليهم الأجل والإمهال والاستدراج قست قلوبهم لزوال الخشية والروعة التي كانت تنبعث لهم من الكتابين، فاشتروا بآيات اللَّه ثمنًا قليلًا، وأقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين اللَّه، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون اللَّه، فصار الدين المحرّف يماشي الأهواء والشهوات، ويبرّر ركوب المعاصي والموبقات، حتى وصلوا إلى هيئة من الأعراف المخالفة للشريعة يعظمونها فيما بينهم، وهم في ما تعارفوا عليه نابذون لشرع اللَّه خارجون عن ميزانه وضوابطه.
أخرج الإمام أحمد في المسند بإسناد صحيح عن أبي عامر (عبد اللَّه بن يحيى) قال: [حَجَجْنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر فقال: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: إنّ أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإنّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة -وهي الجماعة- وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، واللَّه يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيّكم -صلى اللَّه عليه وسلم-، لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به] (١).