وقال ابن زيد: (المصائب والرزق والأشياء كلها مما تحبّ وتكره فرغ اللَّه من ذلك كله قبل أن يبرأ النفوس ويخلقها). فالضمير في ﴿نَبْرَأَهَا﴾ يعود على النفوس أو على المصيبة، والأحسن عوده على الخليقة والبرية.
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: [كَتَبَ اللَّه مقاديرَ الخلائق قبلَ أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. قال: وَعَرْشُه على الماء] (١).
وفي لفظ أحمد: [قدّر اللَّه المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألفِ سنة].
قلت: والآية ردٌّ على القدرية الذين يقولون لا قدر، وعلى الذين يخوضون في القدر دون علم ولا يثبتون العلم السابق للَّه. فإن كل نازلة مكتوبة، وكل مصيبة بذنب، وما يدفع اللَّه أكثر.
ففي التنزيل: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: ٣٠].
وفي معجم الطبراني "الصغير" بسند حسن عن البراء بن عازب مرفوعًا: [ما اخْتَلَجَ عِرْقٌ ولا عَيْنٌ إلا بِذَنْبٍ، وما يَدْفَعُ اللَّه عنه أكثر] (٢).
وقوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾. قال ابن كثير: (أي: إنَّ علمه تعالى الأشياء قَبْل كَونِها وكتابَتِه لها طِبْقَ ما يُوجَدُ في حينها سَهْلٌ على اللَّه -عزّ وجل- لأنه يعلمُ ما كان وما يكونُ، وما لم يكنْ لو كان كيف كان يكون).
وقوله: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾. أي: أعْلَمناكم بسبق عِلْمِنا وتَقَدُّم كتابتنا، فإنَّ ما أصابكم أيها الناس من مصيبة في أموالكم أو أنفسكم فإنه مكتوب عليكم قبل خلقكم، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فلم تدركوه منها، ولا تفرحوا بما آتاكم منها فَمَلَّككُم وخَوَّلَكُم.
قال ابن عباس: (﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ قال: الصبر عند المصيبة، والشكر

(١) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (٢٦٥٣) كتاب القدر، وأخرجه أحمد (٢/ ٦٩)، والترمذي (٢١٥٦)، ورواه ابن حبان (٦١٣٨).
(٢) حديث حسن. رواه الطبراني في "المعجم الصغير" (١٠٥٣)، وانظر السلسلة الصحيحة (٢٢١٥).


الصفحة التالية
Icon