كُنَا نُشَبِّهُها بإحدى المُسَبِّحاتِ فَأُنْسِيتُها، غيرَ أني قد حَفِظتُ منها: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، فَتُكْتَبُ شهادةً في أعناقِكم، فَتُسْألون عنها يوم القيامة] (١).
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (كان ناسٌ من المؤمنين قبلَ أن يُفْرَضَ الجهادُ يقولون: لَوَدِدْنا أن اللَّه -عزّ وجل- دَلَّنا على أحبِّ الأعمال إليه، فنعملَ به. فأخبر اللَّه نبيَّهُ أن أحبَّ الأعمالِ إيمانٌ به لا شكَّ فيه، وجهادُ أهلِ معصيتهِ الذين خالفوا الإيمان ولم يُقِرُّوا به. فلما نزل الجهادُ كَرهَ ذلك أناسٌ من المؤمنين، وشقَّ عليهم أمرُه، فقال اللَّه سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾). رواه ابن جرير واختاره لمعنى الآية.
قلت: بل الآية عامة في كل عزيمة أو عِدَة أو نذر أو قول لا يفي به المؤمن بعد أن أخذه على نفسه أو عاهد اللَّه عليه. قال تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٤].
وفي الصحيحين والمسند ومعظم السنن عن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: [أَرْبَع مَنْ كُنَّ فيه كان منافِقًا خالصًا، ومَنْ كانَتْ فيه خَلَّةٌ مِنْهن كانت فيه خَلَّةٌ مِنْ نِفاقٍ، حتى يَدَعَها: إذا حَدَّثَ كذَبَ، وإذا عاهَدَ غَدَرَ، وإذا وَعَدَ أخْلَفَ، وإذا خاصَمَ فَجرَ] (٢).
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عمر وابن عباس، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: [لا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أن يُعْطِيَ عَطِيَّةً، أو يَهَبَ هِبَةً، فَيَرْجِعَ فيها، إلا الوالِدَ فيما يُعطي ولَدَه، ومَثَلُ الذي يُعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكُلُ، فإذا شَبعَ قاءَ ثم عادَ في قيئِه] (٣).
وقوله تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾. تأكيد الإنكار، لتناقض الأقوال مع الأعمال. قال النسفي: (واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض). وقال القرطبي: (و"مَقْتًا" نصب بالتمييز، المعنى: كبر قولهم ما لا يفعلون مقتًا.
(٢) حديث صحيح. أخرجه البخاري (٣٤)، ومسلم (٥٨)، وأبو داود (٤٦٨٨)، والترمذي (٢٦٣٢)، وأخرجه النسائي (٨/ ١١٦)، وأحمد (٢/ ١٨٩ - ١٩٨)، وابن حبان (٢٥٤).
(٣) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (٣٥٣٩)، وابن ماجة (٢٣٧٧). انظر صحيح أبي داود (٣٠٢٣).