لأن جاءه الأعمى، وهو ابن أم مكتوم رضي اللَّه عنه الذي لا يبصر بعينيه.
أخرج أبو يعلى في المسند، بإسناد حسن، عن قتادة، عن أنس قال: [جاء ابنُ أم مكتوم إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يكَلِّمُ أُبَيَّ بن خَلَفٍ، فأعرض عنه، فأنزل اللَّه عز وجل: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى﴾، فكان النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد ذلك يُكْرِمُهُ] (١). قال قتادة: (وأخبرني أنس بن مالك قال: رأيته يوم القادسيَّةِ وعليه درْعٌ ومعه رايةٌ سوداءُ، يعني ابن أمِّ مكتوم).
قلت: فكان العتاب اللطيف من اللَّه سبحانه، لأن ابن أم مكتوم يرجح في ميزان الحق على المئات من أمثال أبي بن خلف وأمثاله من المشركين.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾. أي: وما يدريك يا محمد، لعل هذا الأعمى المؤمن الذي عبست في وجهه يزّكى: أي يتطهر من ذنوبه، ويرتفع في إيمانه.
وقوله تعالى: ﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى﴾. أي: أو يعتبر ويتعظ فينفعه الاتعاظ والاعتبار، ويشد ذلك من عزيمته ليثبت على سبيل الأخيار.
وقوله: "فتنفعَه" نصبه عاصم جوابًا لِلَعَلّ، ورفعه غيره -"فتنفعُه"- عطفًا على "يذكّر"، وهما قراءتان مشهورتان في الأمصار.
وقوله تعالى: ﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى﴾. قال النسفي: (أي من كان غنيًا بالمال ﴿فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى﴾ تتعرض بالإقبال عليه حرصًا على إيمانه). والتصدِّي: الإصغاء. وأصله في كلام العرب من الصَّدَد: القُرب. يقال: دارِي صَدَدَ دارِه أي قُبالتَها، وهو نَصْبٌ على الظَّرف. وقراءة عامة القراء "تَصَدّى" بالتخفيف، على طرح التاء الثانية تخفيفًا.
والمقصود: إنك تقبل -يا محمد- عليه بوجهك وحديثك، وهو يظهر الاستغناء عنك والإعراض عما جئت به، غرّه ماله وجاهه وسلطانه.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى﴾. أي: وما أنت -يا محمد- بمطالب بهذا الكافر إذا لم يؤمن ويرشد ويتطهر، فإنما أنت رسول، وما عليك إلا البلاغ. قال مجاهد: (يقول: وأي شيء عليك أن لا يتطهَّرَ من كفره فيسلم؟ ).
وقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (٨) وَهُوَ يَخْشَى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾.
قال مجاهد: (يقول: وأما هذا الأعمى الذي جاءك سعيًا، وهو يخشى اللَّه ويتقيه،