افْتَتَحَ مَكَّةَ: [لَا هِجْرةَ ولكِنْ جِهادٌ ونِيَّةٌ، وإذا اسْتُنْفِرْتُم فانْفِروا، فإن هذا بلدٌ حَرَّمَ اللَّهُ يومَ خلق السماوات والأرضَ، وهو حرامٌ بِحُرْمَةِ اللَّه إلى يومِ القيامة، وإِنَّهُ لا يَحِلُّ القِتالُ فيه لأحَدٍ قبلي ولمْ يَحِلَّ لي إلا ساعةً مِنْ نَهارٍ، فهو حرامٌ بحُرْمَةِ اللَّه إلى يوم القيامة] الحديث (١).
والتأويل الثاني: أي أقسم بهذا البلد الذي أنت مقيم به، تشريفًا لك وتعظيمًا لقدرك، لأنه صار بحلولِكَ فيه عظيمًا شريفًا.
قلت: وكلا المعنيين حق، سواء أكان القسم تأويله في الحاضر أو المستقبل، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله تعالى: ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾. قَسَمٌ من اللَّه تعالى بالوالد وأولاده، كآدم وما تناسل من ولده، وبكل والد ومولود من جميع الحيوانات، تنبيهًا على عظم آية التناسل والتوالد، ودلالتها على قدرة اللَّه وحكمته وعلمه.
فعن ابن عباس: (﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾ قال: هو الوالد وولده). وقال أيضًا: (الوالد: الذي يلد، وما ولد: العاقر الذي لا يولد له). وقال مجاهد: (الوالد: آدم، وما ولد: ولده). وعن عطية العوفي: (هو عموم في كل والد وكل مولود).
وقال الماوردي: (ويحتمل أن الوالد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، لتقدّم ذكره، وما ولد أمته، لقوله عليه السلام: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم". فأقسم به وبأمّته بعد أن أقسم ببلده، مبالغة في تشريفه عليه السلام).
قلت: والراجح العموم، فيدخل في ذلك كل والد ومولود، كما تقدم، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾. هو جواب القسم. والإنسان هنا ابن آدم. والكَبَد: الشدة والمعاناة (٢). والتقدير: لا يزال الإنسان في مكابدة شدائد هذه الدنيا ومقاساة آلامها حتى يموت، فإذا مات كابد شدائد القبر والبرزخ وأهوالهما، ثم إذا بُعث كابد شدائد الآخرة. وفيه تسليةٌ للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مما كان يكابده من قريش، فإن الأنبياء أشُد الناس بلاء.
(٢) أصل الكبد من (كبد الرجل كبدًا) فهو أكبد، إذا وجعت كبده وانتفخت. ثم استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة.