شديدًا، وقلتُ: كُلُّ شيءٍ خَلْقُ اللَّهِ ومِلْكُ يَدِهِ، فلا يُسْأَلُ عمَّا يَفْعَلُ وهم يُسْأَلُون. فقال لي: يَرْحَمُكَ اللَّه! إني لَمْ أُرِدْ بما سَأَلْتُكَ إلا لأَحْزِرَ عَقْلَكَ (١)، إنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ مُزَيْنَةَ أَتَيا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالا: يا رسولَ اللَّه! أَرَأَيْتَ ما يَعْمَلُ الناسُ اليومَ، ويَكْدَحُون (٢) فيه، أشيءٌ قُضِيَ عليهم وَمَضَى فيهم مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ؟، أَوْ فيما يُسْتَقْبَلُونَ به مِمَّا أَتَاهُم به نَبِيُّهمْ، وَثَبَتَتِ الحُجَّةُ عليهم؟ فقال: "لا، بل شيءٌ قُضِيَ عليهم ومضى فيهم، وتصديقُ ذلك في كتاب اللَّه عز وجل: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾] (٣).
وقوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾. هو جواب القسم. وأصل الزكاة: النموّ والزيادة، ومنه زكا الزرع، إذا كثر ريْعُه، ومنه تزكية القاضي للشاهد، لأنه يرفعه بالتعديل، وذكر الجميل. قال القرطبي: (فمصطنع المعروف والمبادر إلى أعمالِ البر، شَهَرَ نفسه ورفعها. وكانت أجواد العرب تنزل الرُّبا وارتفاعَ الأرض، ليشتهر مكانُها للمُعْتِفِين (٤)، وتوقد النار في الليل للطارقين. وكانت اللئام تنزل الأَوْلاج والأطراف والأهضام (٥)، ليخفى مكانها عن الطالبين. فاولئك عَلَّوا أنفسهم وزَكَّوها، وهؤلاء أخفَوا أنفسهم ودَسُّوها).
وفي الآية تأويلان متكاملان يقتضيهما الإعجاز البياني للقرآن:
التأويل الأول: قد أفلح من زكى نفسه بطاعة اللَّه، وطهّرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل. قال قتادة: (من عمل خيرًا زكّاها بطاعة اللَّه). وقال أيضًا: (قد أفلح من زكّى نفسه بعمل صالح). وهذا المعنى كقوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى: ١٤ - ١٥].
التأويل الثاني: قد أفلح من زكّى اللَّه نفسه. وهو قول ابن عباس. وقال ابن جرير: (يقول: قد أفلح من زكى اللَّه نفسه، فكثر تطهيرها من الكفر والمعاصي، وأصلحها بالصالحات من الأعمال).
وقوله تعالى: (﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾. قال أهل اللغة: (والأصل: دسَّسَها، من
(٢) الكدح: هو السعي في العمل، سواء أكان للآخرة أم للدنيا.
(٣) حديث صحيح. أخرجه مسلم (٢٦٥٠) - كتاب القدر، وأخرجه أحمد (٤/ ٤٣٨)، والطبري (٣٧٣٨٢)، وأخرجه ابن أبي عاصم (١٧٤)، وابن حبان (٦١٨٢).
(٤) المعتفي: كل طالب فضل أو رزق.
(٥) الأولاج: غار أو كهف. والأهضام: أسافل الأودية.