أخرج الحاكم بسند جيد عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: [لتركبنَّ سُنَنَ من كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، وباعًا بباع، حتى لو أنّ أحدهم دخل جُحْرَ ضب دخلتم، وحتى لو أن أحدهم ضاجع أمه بالطريق لفعلتم] (١).
وقوله: ﴿بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾. أي: بئس مثل القوم المثل الذي ضربناه لهم. قال ابن القيم في "أعلام الموقعين": (قاسَ من حَمَّلَهُ سبحانه كتابَهُ ليؤمِنَ به ويتدبّره ويعمل به ويدعو إليه، ثم خالف ذلك، ولم يحمله إلا على ظهر قلب، فقراءته بغير تدبّر ولا تفهّم ولا اتباع له، ولا تحكيم له، وعمل بموجبه -كحمار على ظهره زاملة أسفار، لا يدري ما فيها، وحظه منها حملها على ظهره ليس إلا، فحظّه من كتاب اللَّه كحظّ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره. فهذا المثل، وإن كان ضُرِب لليهود، فهو متناول من حيث المعنى، لمن حمل القرآن، فترك العمل به، ولم يؤدّ حقّه، ولم يرعه حق رعايته).
وقوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾. أي: واللَّه لا يوفق القوم الذين اختاروا ظلم أنفسهم، بكفرهم بآيات ربهم. وقيل: واللَّه لا يهدي من سبق في علمه أن يكون كافرًا.
وقوله تعالى: ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾. -هادوا-: من هادَ يهود إذا تهوّد. والمقصود: لما ادّعت اليهود الفضيلة بأنهم أبناء اللَّه وأحباؤه من دون الناس دُعوا للاختبار الدقيق، فإن للأولياء عند اللَّه الكرامة، ومن ثمَّ قيل لهم: تمنّوا على اللَّه أن يميتكم وينقلكم سريعًا إلى دار كرامته التي أعدها لأولياءه، فتستريحوا من كرب الدنيا وهمومها وغمومها، وتصيروا بعد الموت إلى روح الجنان ونعيمها، ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في زعمكم ودعواكم.
وفي التنزيل نحو ذلك، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٩٤ - ٩٦].
وقوله: ﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾. أي: لا يتمنى اليهود الموت أبدًا بما

(١) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (٤/ ٤٥٥)، والدولابي في "الكنى" (٢/ ٣٠)، وله شاهد عند الترمذي، والحاكم (١/ ١٢٩) من حديث عبد اللَّه بن عمرو. وانظر صحيح الجامع (٤٩٤٣).


الصفحة التالية
Icon