إن رأى نفسه مستغنيًا بماله وقوته. قال النسفي: (﴿كَلَّا﴾ ردع لمن كفر بنعمة اللَّه عليه بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه. قال: ومعنى الرؤية العلم).
قلت: وهذه الآيات نزلت في أبي جهل الذي كان يحاول منع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الصلاة والدعوة وبلاغ الوحي، ويؤذيه أشد الإيذاء. فجاءت هذه الآيات تحمل له التهديد الشديد والوعيد الأكيد.
ففي صحيح مسلم وسنن النسائي عن أبي هريرة قال: [قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب. قال: فأتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إنّ بيني وبينه لخندقًا من نار وهَوْلًا وأجنحة، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: لَوْ دنا لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا، قال: فأنزل اللَّه عز وجل: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٧) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ -يعنى قول أبا جهل- ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (١٤) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (١٥) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (١٨) كَلَّا لَا تُطِعْهُ...﴾] (١).
وفي رواية عند ابن جرير من طريق ابن عباس: [فقال: -أي أبو جهل-: لقد علم أني أكثر هذا الوادي ناديًا. فغضب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأنزل اللَّه: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ فقال ابن عباس: فواللَّه لو فعل لأخذته الملائكة من مكانه] (٢).
وفي رواية عند الترمذي عن ابن عباس قال: [كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا؟ ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فزبره -أي أغلظ النبي لأبي جهل القول ونهَره-، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾، قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته زبانية اللَّه] (٣).

(١) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (٤/ ٢١٥٤)، وأحمد في المسند (٢/ ٣٧٠).
(٢) حديث صحيح. انظر تفسير الطبري (٣/ ٢٥٦). وكتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (١/ ٢١٤).
(٣) حديث صحيح. انظر سنن الترمذي (٥/ ٤٤٣ - ٤٤٤)، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (٢٧٥).


الصفحة التالية
Icon