وقال القرطبي: (﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ أي: حتى أتاكم الموت، فصرتم في المقابر زوّارًا، ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار. يقال لمن مات: قد زار قبره).
قلت: والراجح أن المقصود المصير إلى القبور بعد الموت والدفن فيها، وعُبِّر عن دخولها بالزيارة لأن الإنسان ماكث فيها إلى يوم البعث، فهو كالزائر فترة محدودة إلى حين يوم النشور والحساب، ومقايضة الجزاء، والاستقرار في الجنة أو النار، وربما كان هذا من فتح اللَّه علي من روائع الفهم لكتابه، واللَّه تعالى أعلم.
والمقابر: جمع مَقْبَرَة ومَقْبُرَة. والقبور: جمع القبر. ولم يرد ذكر المقابر في التنزيل إلا في هذه السورة، وأما السنة فقد كثر ذكر المقابر فيها والحث على زيارتها، وزيارتها كما قيل من أعظم الدواء للقلب القاسي، لأنها ترققه بذكر الموت والآخرة. وفي ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في الصحيح عن أبي هريرة قال: [زارَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْرَ أمه، فبَكَى وأَبْكى مَنْ حَوْلَهُ، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: استأذنْتُ ربي في أن أستغفرَ لها فلم يُؤذَنْ لي، واسْتَأذنْتُه في أن أزور قَبْرَها فَأذِنَ لي، فزوروا القبورَ، فإنها تُذَكِّرُكُم الموت] (١).
الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: [زُوروا القُبور. فإنها تُذَكِّرُكُم الآخِرة] (٢).
الحديث الثالث: أخرج أبو داود بسند صحيح عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: [نَهَيْتكُم عنْ زيارِةِ القبور فزوروها، فإن في زيارتِها تذكرة] (٣).
الحديث الرابع: أخرج ابن ماجة بسند حسن عن أبي هريرة قال: [لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- زَوَّارات القبور] (٤).
والمقصود هنا: لَعْنُ النساء اللاتي يكثرن الزيارة لما لا يسلم ذلك من المخالفات الشرعية، بخلاف غيرهن فلا يشملهن اللعن، وإلا فقد أذن للرجال والنساء بزيارة
(٢) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (١٥٦٩) - كتاب الجنائز - باب ما جاء في زيارة القبور.
(٣) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (٣٢٣٥) -كتاب الجنائز - وانظر صحيح سنن أبي داود (٢٧٧٢).
(٤) حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (١٥٧٦) - كتاب الجنائز - وانظر صحيح سنن ابن ماجة (١٢٨١).