وقال القرطبي: (﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ أي: حامدًا له على ما آتاك من الظفر والفتح).
وقال القاسمي: (﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾ أي: ورأيت الناس من صنوف العرب وقبائلها عند ذلك يدخلون في دين اللَّه، وهو دينك الذي جئتهم به لزوال ذلك الغطاء الذي كان يحول بينهم وبينه، وهو غطاء قوة الباطل فيقبلون عليه أفواجًا طوائف وجماعات لا آحادًا، كما كان في بدء الأمر أيام الشدة. إذا حصل ذلك كله وهو لا ريب حاصل ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ أي: فنزه ربك عن أن يهمل الحق ويدعه للباطل يأكله. وعن أن يخلف وعده في تأييده. وليكن هذا التنزيه بواسطة حمده والثناء عليه بأنه القادر الذي لا يغلبه غالب، والحكيم الذي إذا أمهل الكافرين ليمتحن قلوب المؤمنين، فلن يضيع أجر العاملين ولا يصلح عمل المفسدين. والبصير بما في قلوب المخلصين والمنافقين، فلا يذهب عليه رياء المرائين ﴿وَاسْتَغْفِرْهُ﴾ أي: اسأله أن يغفر لك ولأصحابك ما كان من القلق والضجر والحزن، لتأخر زمن النصر والفتح. والاستغفار إنما يكون بالتوبة الخالصة. والتوبة من القلق إنما تكون بتكميل الثقة بوعد اللَّه، وتغليب هذه الثقة على خواطر النفس التي تحدثها الشدائد، وهو وإن كان مما يشق على نفوس البشر، ولكن اللَّه علم أن نفس نبيّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد تبلغ ذلك الكمال فلذلك أمره به، وكذلك تقاربه قلوب الكمل من أصحابه وأتباعه عليه السلام. واللَّه يتقبل منهم ﴿إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ أي: إنه سبحانه لا يزال يوصف بأنه كثير القبول للتوبة، لأنه ربٌّ يربي النفوس بالمحن. فإذا وجدت الضعف أنهضها إلى طلب القوة، وشدد همها بحسن الوعد. ولا يزال بها حتى تبلغ الكمال. وهي في كل منزلة تتوب عن التي قبلها. وهو سبحانه يقبل توبتها فهو التواب الرحيم).
قلت: وهذا كلام بديع، وتفسير رائع، وتؤيده السنة الصحيحة في روائع من الأحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري في كتاب التفسير من صحيحه عن مَسْروق، عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: [ما صَلّى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلاةَ بعد أنْ نزلت عليه ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ إلا يقول فيها: "سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفِر لي"] (١).
الحديث الثاني: وأخرج البخاري في كتاب التفسير من صحيحه -كذلك- عند هذه الآية، عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: [كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُكْثِرُ أنْ يقولَ في ركوعه